دعت الأقطار العربية التي حوّلت أمراء الطوائف في بيروت إلى جنرالات، إلى عقد اجتماع طارئ لوزراء خارجية الدول العربية لبحث إمكانية توسيع دائرة الفتنة في لبنان سعيا إلى تدويلها. عندما يحوّل الانتصار إلى هزيمة احتفلت إسرائيل بستين عاما على قيامها ككيان استيطاني في جسم الأمة العربية، واحتفلت الأقطار العربية بستين عاما من الهزائم والمآسي والشتات، فإسرائيل لم تجد في الجيوش العربية جنرالا واحدا يقاوم احتلالها للأراضي العربية غير حزب الله وحماس، وهذان الحزبان يقوضان مضاجعها، ولا تستطيع تأكيد وجودها إلا بإنهائهما من الخريطة العربية.وإذا كانت قد وُفِّقت في تقزيم »حماس«، لأنها دفعت بها إلى »اللعبة الديمقراطية« على حساب تحرير البلاد، وقسمت المقاومة الفلسطينية إلى حزبين يتقاتلان على »حكومة افتراضية« في دولة افتراضية، واغتالت رموز الجهاد في حماس، وارتكبت مجازر أمام عيون الأممالمتحدة وصمت عربي، وأثبتت عجز المرجع الديني الإسلامي وهو مكةالمكرمة في حل النزاع بين الأشقاء الأعداء، بعد أن حولت المرجع السياسي والنضالي للشعوب العربية إلى وسيط أمني بين إسرائيل وفصائل المقاومة.إذا كانت المشكلة في فلسطين هي أن الفصيلين الكبيرين في المقاومة فقدا مشروعهما التحرري، لأنهما وقعا في فخ »الدولة الافتراضية« أو المشروع الأمريكي الإسرائيلي، فإن المشكلة في لبنان أكبر من صراع أمراء وملوك طوائف حول السلطة.بدأت بتحويل تحرير الجنوب اللبناني من إسرائيل إلى هزيمة عربية، بالرغم من اعتراف العدو بالهزيمة ومحاسبة الضباط على ذلك. فقد قامت الدول التي قادت الشعوب العربية لمدة نصف قرن نحو الهزائم تحت شعارات مختلفة.لأول مرة، في تاريخ الشعوب العربية تدخل فرحة الانتصار إلى القلوب ويصير نصر الله رمزا من رموز المقاومة، ويعلق في جميع البيوت بديلا لصلاح الدين الأيوبي. لولا أن اغتيال متطرفي الشيعة في العراق الرئيس صدام حسين صبيحة عيد الأضحى، حيث صارت الصورة الوحيدة في البيوت هي صورة صدام.هذه هي الحقيقة التي لا يستطيع أحد اكتشاف سرها بمعنى تبديل »صورة الحي بالشهيد«.لا يختلف اثنان بأن الانتصار الذي حققته المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله سيبقى الصفحة المشرقة في تاريخنا العربي الإسلامي، لكن هذا الانتصار الذي وحّد العرب والمسلمين وأحيى فينا »الميت« من كرامتنا وعزتنا، بدأ يطوى أسطورة »شعب الله المختار«، والجيش الذي لا يقهر، والدول العظمى، والدبابة الأسطورة، و»الجوسسة القمرية«.تبيّن أن نظام الاتصالات في الجنوب هو أحد عناصر قوة حزب الله، وعدم اختراقه جعل إسرائيل وأمريكا تبحثان عن البديل، وحين اغتيل أحد رموز حزب الله في دمشق، تأكد حزب الله أن هناك اختراقا له في جهة ما. والمؤكد أنها المطار، ولعل هذا هو سر الصراع بين الموالاة والمعارضة. ولهذا جاءت إقالة مدير المطار لتشعل الحرب الأهلية في لبنان تحت مسميات مختلفة، وتتحول بعض القنوات العربية إلى منابر تحريضية لتوسيع رقعة الفتنة بهدف التدخل الدولي. قرار الحرب خارج قمة دمشق! كان القرار الأمريكي بمنع الملوك والرؤساء العرب من المشاركة في »قمة دمشق« بمثابة إعلان »حرب على كل من تشتم فيه رائحة المقاومة أو يقف إلى جانب إيران ضد التهديد الأمريكي.ولولا رؤساء دول المغرب العربي وبعض الأمراء العرب لتحولت »قمة دمشق العربية« إلى ممثلي الجامعة العربية.حتى السنيورة الذي يرأس حكومة لبنان، والمرفوض من المعارضة المحسوبة على سوريا وإيران لم يشارك بالرغم من أن حضوره إلى مؤتمر القمة العربية التي انعقدت في سوريا كان يمكن أن يعطيه الشرعية على حساب المعارضة. لكن قرار المشاركة للبنان مرتبط بالرياض ومادامت صاحبة »المبادرة« بحل أزمة لبنان غائبة عن القمة العربية فمن الطبيعي أن يغيب لبنان.ويبدو لي أن الموالاة فوّتوا فرصة انتزاع الشرعية، والتفاوض من منطق القوة.أما الآن فإن هناك اتجاها عاما بدعم تدويل لبنان ليصبح فلسطين الثانية، يهدف تحويل حزب الله إلى ميليشيا يتم الضغط الدولي لتجريدها من السلاح وتشريدها.لكن يخطئ من يتصور أن تحويل أمراء وملوك الطوائف في لبنان إلى جنرالات حرب يسهل مهمة القوى العظمى أو إسرائيل نزع سلاح حزب الله، لأنه »سلاح الإيمان«، وهو ليس رشاشا أو صاروخا أو مسدسا، وإنما جندي يريد الاستشهاد من أجل قضيته أرادت الصهيونية العالمية الاحتفال بإقامة دولتها في فلسطين بعد 60 سنة من القتل والتشريد للشعب الفلسطيني، بمشاركة دولة، لدعم هذا الكيان المهدد بالانقراض، إذا ما بقي في الوطن العربي حزب يحمل أفكار حماس أو حزب الله.قرار تجريد حزب الله من سلاحه تم اتخاذه خارج القمة العربية من قبل الملوك والرؤساء الذين قاطعوا القمة، بدعم علني من أمريكا.يخيل لي أن الصوت الوحيد الذي أشعل فتيل الحرب هو صوت وليد جنبلاط، لأنه في كل »خرجاته« كان يسيء في خطابه إلى المقاومة، ويحاول تقزيمها.ويخيل لي أن السفارة الأمريكية والسعودية في لبنان هما مصدر المشاكل الموجودة في لبنان بالرغم من أنني لا أنكر أن خطاب نصر الله الأخير نزل إلى مستوى جنبلاط، وهذا هو ما يريده جنرالات »الموالاة«.الاعتقاد السائد عندي أن الحرب بدأت وقد كنت من بين الصحفيين الذين عاشوا فتيلها عام 1975، وما تزال صورة البدايات الأوى للحرب الأولى الأهلية في لبنان هي الصورة نفسها التي بدأت ملامحها تظهر في وسائل الإعلام. سيناريو ل »تدخل دولي«! عندما دعا الرئيس لحود إلى انتخاب العماد ميشال سليمان وزير الدفاع اللبناني، رئيسا لخلافته اعتبر المولاة ذلك اختراقا للدستور، بالرغم من أن الدستور مجرد »قانون« تحت تصرف الأغلبية النيابية.وعندما فقدت الحكومة شرعيتها صارت جميع الأطراف متفقة على ضرورة انتخاب الجنرال المختلف حوله سابقا، رئيسا للبنان، لأنه السلطة الوحيدة التي بقيت على رأس جيش موحد بالرغم من أن أبناءه من جميع فئات الطوائف اللبنانية.وعندما يصبح الجيش هو الملجأ الوحيد للدولة الديمقراطية فهذا يعني نهايتها، لأن الاحتكام إلى سلطة السلاح هو بداية ميلاد الدولة الديكتاتورية.والسيناريو المتوقع هو دفع حزب الله إلى الدخول في حرب شوارع ضد الموالاة، سعيا إلى دفعه لأن »يحتل بيروت« حتى تسهل مهمة إسرائيل وأمريكا. فالمواجهة في بيروت بين الأشقاء هي مواجهة بين مشروع أمريكي بسلاح عربي، ومشروع مقاومة بدعم إسلامي.السبب الرئيسي في اندلاع الحرب الأهلية هو قرار رئيس الحكومة اللبنانية بإقالة مدير المطار بتهمة ولائه لحزب الله. لكن هذه الحرب تختلف عن الحروب الأهلية الماضية، لأنها ستكون حربا بين تيارين سياسيين وليس بين طائفتين دينيتين. فالحرب لن تكون (بين شيعة وشيعة أو بين شيعة وسنة، أو بين مسيحيين ومسيحيين، وإنما بين تيار حزب الله وميشال عون اللذين يمثلان المعارضة في بعدها الإسلامي والمسيحي، وتيار الموالاة في بعدها المسيحي والإسلامي. الحرب تبدأ بتهديم المؤسسات الإعلامية لكل طرف لتنتقل إلى أمراء الطوائف. والحوار مستبعد إذا وقع تدخل أجنبي أو تحركت دول عربية لدعم هذا التيار أو ذاك، لأن الحل الوحيد والسيناريو القادر على توقيف الدم في لبنان هو تسليم مقاليد الحكم إلى العماد ميشال سليمان، بحيث أن الجيش هو المخول بتجميد الحرب الأهلية مؤقتا، في انتظار حوار من نوع آخر.الدم سال وعلى القادة العرب أن يدركوا أنهم من أسال الدم في لبنان ومن باعوا فلسطين، ومن يريدون لنا أن ننقرض من خريطة التاريخ، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فالتاريخ تصنعه الشعوب وليس قادتها، والشعوب العربية حتى الآن ما تزال صامتة.