الحلقة 23 تفسير المؤمنين للشيخ أبو جرة سلطاني القرءان الكريم المعجزة الخالدة إن أول ما تجب معرفته، في درس هذه الجولة هو أسباب وبواعث الشك الذي حام حول نزول القرآن الكريم، برغم أن الله جلت قدرته، قد صنع بعينه مسارا صافيا صادقا أمينا لمن كان يعدّه لحمل هذه الرسالة العالمية، فعلى مدار أربعين عاما الرابطة بين ميلاده (ص) وبداية نزول الوحي عليه، عرف أهل مكة وسادتها وكبراؤها حياته يوما بيوم، ووقفوا على أدق ما فيها من تفاصيل و"يوميات" لا تخفي أية خصوصية لهذا المولود القرشي، في سلسلة تشبه من جهة الأب وحسبه من جهة الأم إلى إبراهيم (ع)، فقد سمع أهل يثرب بميلاده ورضاعته ووفاة والده قبل أن يخرجه الله من رحم أمه إلى هذه الدنيا لأن أعمامه من قريش وأخواله من بني النجار في يثرب، وأصهار والده، وعرف كثيرون من حول مكةوالمدينة وعلى تخوم الشام- أخبار صدقه وأمانته ووفائه من تجربته الأولى في رعي الغنم، ومن تجربته الثانية في التجارة بأموال خديجة (رضي الله عنها)، وخلال رحلاته مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو ابن اثني عشرة سنة، بل إن بعض القساوسة الذين تذكر منهم كتب السيّر بَحيَرى الراهب (في بصرى الشام) كانوا قد عرفوا شيئا من هذا الإعداد الرباني له، بما رآه هذا الراهب فيه من علامات نبوّة مكتوبة عندهم في كتبهم القديمة..الخ، فمن أين وُلد في نفوس البعض من هؤلاء المشركين هذا الريب؟ وهل كان شكهم في النص المنزّل عليه أم في صدق النبوّة نفسها أم في شخصه الذي ما جربوا عليه كذبا قط، فقد دونت كتب التاريخ والسيّر، ومنها الكامل لابن الأثير: 01-585، ومسلم والبخاري والترمذي، قصة صدعه بالدعوة، يوم صعوده على جبل الصفا؟ فعلا أعلاها حجرا ثم هتف في الناس "يا صاحباه!! يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب.."، فلما اجتمعوا إليه قال "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي، بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي"؟؟، قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط، ما جربنا عليك إلاّ صدقا، قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.."الخ، فلما أنهى كلامه قال أبو لهب: تبا لك!! ألهذا جمعتنا؟؟، فأنزل الله "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" المسد:01 ، أخرجه البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما). * فمن من هؤلاء الناس كان في ريب مما نزّل الله على رسوله (ص)؟ إذا علمنا أن سورة البقرة نزلت بعد أزيد من ثلاث عشرة سنة من بداية نزول "إقرأ"، وأن كل ما نزل في مكةالمكرمة من سور قد سبق نزولها، وهو شيء كثير جدًّا يتجاوز الثمانين سورة، فهمنا أن الشك لم يكن طارئا على حدث مفاجئ، لتزول سحابته بعد حين، وتتبدد أسبابه بتوالي النزول، بل أن المسألة كانت "عقيدة" شرك وكفر وتكذيب متأصلة في علاقة هؤلاء المرتابين بنزول الوحي من لحظة اتصال الأرض بالسماء، بمعنى لو أن تردّدهم في قبول حقيقة الوحي وحقيقة النبوة والرسالة بدأ مع سورة العلق، والمزمل، والمدثر، والمسد، و"الضحى" لكان شكا مقبولا، لا لأنه محكوم بصدمة النزول أو بدهشة الإعجاز أو هو مبرر عند العرب خاصة- بسبب انعدام صلة سابقة لهم بما يتنزّل من السماء وحيًا، لكن بسبب صعوبة فهمهم لمصدر متكلم من خارج الحيّز الذي كان لهم به سابق معرفة، أما أن يستمر الشك لأزيد من عشر سنوات، نزول خلالها أكثر من نصف القرآن، بحساب عدد السور المكية وبحساب "الكم" المنزل بعد نزول سورة البقرة، فإن هذا الشك يصبح مهيكلا وله مؤسسات تدعمه وتحميه، أي أنه يخرج من دائرة الشك إلى دائرة الإعتقاد الذي يحاول أصحابه أن يوجدوا له ما يسنده، لذلك حاولوا تبرير فعلتهم هذه برمي القرآن بالسحر، والشعر، والكهانة، وأساطير الأولين !! فقال لهم هذا القرآن المتهم بهذه الصفات التي لم تكن مذمومة عندهم- جيئوني بسورة أوبقرآن مثله يشبه ما تزعمون أنه سحر أو شعر أو كهانة أو هو من أساطير الأولين!! هذا التحدي يدعوهم إلى ترك هذا الكلام السخيف والاجتماع على أمر جاد والعمل على "تأليف" سورة واحدة من مثل ما هم فيه من شك، ولم يحدد القرآن لهم شروطا تعجيزية، كأن يأتوا بسورة بذاتها للنسج على منوالها بل ترك لهم مطلق الحرية في عرض ما عندهم من بضاعة، وترك لهم باب التعاون الفني والثقافي واللغوي واسعًا للإستعانة بجميع المرتابين أمثالهم، مؤكدا على أن القرآن موضوع التحدي المفتوح- هو كلام الله الذي أنزله على "عبده" لتأكيد حقيقة واحدة لا تقبل القسمة على اثنين: إذا كان ما يقوله محمد (ص) هو كلامه الموصوف عندكم بالسحر والشعر والكهانة والأساطير..فأتوا "بسحر" من مثله وشعر من مثله وكهانة من مثله وأساطير مثل هذه الأساطير.. أما إذا كان هذا الكلام وحيا من عند الله، ورسول الله بشر مثلكم مبلِّغ عن ربه، فهو ليس كلامه ولا هو سحره، وشعره وكهانته وأساطيره، كما تزعمون، بل هو كلام رب العالمين. وعندئذ يصبح التحدي غير قابل للمواجهة، لأنكم لن تستطيعوا ولو جمعتم إنسكم وجنكم- الإتيان بسورة واحدة من مثله، ولو في حجم سورة "الكوثر" لأن إعجاز القرآن ليس في طول النفس فحسب، وهو طويل النفس، ولا في بلاغة القول فقط، وكل القرآن بليغ معجز، ولا في ما سرد من أخبار دقيقة وقصص حقيقية وأمثال بديعة وأحكام رفيعة، وحكم بارعة ومواعظ رادعة وأقوال جامعة مانعة..إنما إعجازه الأكبر هو أنه من عند الله، وأن الله يأبى أن يكون شيء كمل بيانه وتم إتقانه إلاّ ما كان صفة لذاته أو صفاته أو فعلا من أفعاله، والقرآن كلام الله الكامل، فلا يتم شيئ من الكلام إلاّ كان ناقصا إلاّ كلام كامل الذات والصفات والأفعال، لذلك كان الأمر محسوما بالإستحالة المطلقة في الأزمنة كلها ماض وحاضرا ومستقبلا " فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا"، فالنتيجة محسومة سلفا، الآن وبعد الآن إلى قيام الساعة، لأن المتحدي بالقرآن هو الله كامل الذات والصفات والأفعال، وليس "العبد" الذي أنزل عليه الله كتابه، فسواء كان الفهم قائما على القهر والمنع من الفعل، أو كان قائما على العجز عن الفعل لعجز في القدرة المتاحة للإنسان، فإن الأمر لا يختلف في النتيجة، لأن القادر على أن يمنعك من فعل شيئ قادر على أن يعينك على فعله، لذلك استثنى الله ذاته (جل جلاله) من المستعينين بهم على رفع هذا التحدي، وأقحم ما سواه في العملية مستخدما شرطية "إن" ونفيّية الشرط "لن" لحسْم المعركة قبل بدايتها، فلا تحاولوا، لأنكم لم تفعلوا قبلا، منذ بداية نزول الوحي في مكة إلى يوم نزول سورة البقرة في المدينة، ولن تفعلوا إلى يوم القيامة، التشكيك في قدرتهم على كسب هذا الرهان بل لتوكيد استحالة رفع التحدي وأبدية هذه الخسارة في حياة المتشككين أمسًا واليوم وغدا..وإلى قيام الساعة. وما دمتم لم تفعلوا وإن حاولتم ذلك كما صنع مدعو النبوة- ولن تفعلوا ذلك، مهما اتسعت جغرافية المكان وتطاولت آماد الزمان، فليس أمامكم إلاّ خيار واحد هو اتقاء نار الله بلطف الله والتسليم له بما أنزل على عبده، وترك ما في أنفسهم من كبْر واستعلاء، والكفّ نهائيا عن "اختراع" الذرائع لتبرير تنصلكم من المنهج الإيماني وتكاليفه وتبعاته.. إن هذا التحدي لم ترفعه سورة البقرة لأول مرة في السنة الأولى للهجرة، فقد سبقتها سورة يونس وسورة هود، وكلتاهما نزلتا في مكةالمكرمة ممن لا صلة لهم بكتب الوحي السابقة!! قبل الهجرة، مما يجعل ما نزل في سورة البقرة تذكيرا لأصناف جديدة من المشككين في يثرب (من أهل الكتاب) كان قد سبقهم أخوة لهم في التشكيك بمكةالمكرمة مما يجعل استعراض هذه المعركة في هذا السياق- مهمة دعوية ذات عمق عقَدي، يشترك في التواطؤ على إدارتها المشركون والمنافقون وأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، فهي معركة واحدة مترابطة الحلقات تُسلم مقدماتها إلى نتائجها، ويتسلم فيها راية التشكيك فيلق مرتاب من فيلق يلقي التهم بغير دليل، فالذين حاصرهم القرآن بحججه الدامغة، وعجزهم بيانه وأخرستهم بلاغاته (وهم أبلغ الناس سحرا وبيانا) لم يجدوا من ملجإ يلجأون إليه إلا القول: افتراه، فهو فرية رجل يكذب على ربّه!! فقابلهم الوحي بالقول "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" هود:13 ، نفس التهمة، كلام يلقى على عواهن الشك " يَقُولُونَ افْتَرَاهُ" فإذا كان هذا القرآن مفترى "فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُورَةٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ" أو بسورة واحدة، أي سورة مفتراة من عند أنفسكم، ولكم كل الحرية ومطلق الحق في أن تستعينوا بمن استطعتم من دون الله "إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" في زعمكم بأن القرآن مفترى، وهو من أساطير الأولين. ومع أن التحدي نزل متدرّجا في الطلب ومتباعدا في الزمن، إلاّ أن الأسلوب لم يتغير، والتركيز على خلق "الصدق" هو الذي شكل علامة فارقة في الآيات الثلاثة، وكأن الله (عز وجل) يقول لهؤلاء المرتابين المتهمين لرسول الله(ص) بأنه افترى عليهم القرآن، يقول لهم: كونوا صادقين مع أنفسكم وابتدعوا لنا ما يشبه هذا الذي تسمونه افتراءا على الله!! إذا سلمنا بصحة ما تدّعون فاجتمعوا مع كل أشياعهم من المرتابين في ما أنزلناه على عبدنا ثم "ألّفوا" عشر سور مفتريات، على نفس الأسلوب الذي نسج عليه محمد (ص) ما جاءكم به من "افتراء" بزعمكم، ليكون كلامكم المفترى في عشر سور- نموذجا يصلح للمقارنة والحكم على صدق الصادقين وكذب الكاذبين وادعاء المشككين. وإذا كنتم مصرّين على أن محمدا(ص) هو الذي افترى هذا القرآن، فخذوه واقرأوه وفككوا رموزه ونقبوا في "طلاسمه" ثم جيئوا بسورة واحدة مفتراة، على نفس منوال ماهو مفترىء لكم، ولكم مطلق الحرية في أن تستعينوا بمن استطعتم من علماء الإفتراء وأساطين السحر والشعر والكهانة..ليكون لكلامكم موضع من الصدق فيما تزعمون. أما إذا لم تكونوا من صنف القائلين بالإفتراء ولكنكم في ريب من "ظاهرة" نزول الوحي على محمد(ص) كونكم أهل كتاب وتعرفون ماهو الوحي وكيف ينزّله الله على من شاء من رسله، عندئذ أمامكم فرصة إمانية ثمينة لدحض ما يزعم محمد(ص) أنه وحي من عند الله، وأنه كلام الله باستعراض سورة واحدة تقدمونها بين يدي هذا القرآن تكون "تشبه" ما نزل من السور على رسول الله (ص) دون تحديد للمكي منها والمدني والمحكم والمتشابه والطويل والمفصل.. ففي سورة هود (ع) جاء التحدي بعشر سور "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" هود: 13، ثم تم تخفيفه إلى سورة واحدة " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" يونس: 38، ثم أغلق عنهم كل محاولة لرفع التحدي "فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" البقرة:24 . يتبع…