"أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ" الحلقة…. والفساد في الأرض هو النتيجة الطبيعية للخروج عن المنهج، لأنه شذوذ خارج عن القاعدة الكلية، فإذا كان الخارجون عن المنهج قلة قليلة في حجم شواذ اللغة وشوارد الإليكترون- فإنه يمكن حفظهم وتصنيفهم لكيلا يقاس عليهم، ولكن إذا صارت الشواذّ والحركات الشاذة هي قاعدة الحياة، وصار الخروج عن المنهج، باسم الحرية والتحضرّ والتطور، هو قاعدة الحكم و"دستور" الحياة، وصار منهج الله هو "الشاذ" في حكم الشذاذ والشواذ !!عندئذ تنقلب الموازين كلها ويصبح الفساد نفسه صلاحا والصلاح فساد، ويُسيطر على العالم كله منهج قوم لوط من الشاذين الذين صارت الطهارة تزعجهم والعفاف يقضّ مضاجعهم، ولم يجدوا من وسيلة للتخلص من نظافة المجتمع وطهارته إلاّ التآمر على إخراج الأطهار منه بتهمة الطهارة لا غير : "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" النمل:56، هكذا، عندما يخرج الإنسان عن منهج الهداية تصبح الموازين عنده مقلوبة رأسا على عقب، ويصبح المنهج الوحيد المهيمن على حياة الناس هو الجشع والشّرة والنزوة والشهوة، والأنانيات الفردية الضيقة، وصلة الأرحام تتطلب "رحمة" بمن جعلك الله من لحمهم ودمهم وجعل بعضهم من لحمك ودمك، وهذا الإحساس المرهف يجعلك تنظر إلى البشرية كلّها على أنهم "أخوة" لك في الأدمية، وأن ربكم واحد، لا يتعدّد ولا يقبل الشريك، لأنه خالقكم من آدم (ع) وآدم من تراب، ولأنه رازقكم جميعا بما هيأه لكم من أسباب الحياة والحركة والكسب، وأنه أرسل من أجلكم جميعا الآف الرسل (ع) وأنزل عشرات الكتب لهدايتكم إلى منهج إيماني تعرفون به أنسكم وتصلون به أرحامكم وتمتنعون عن إشاعة الفساد في الأرض، لكن الفاسقين لا يفكرون بمثل ما نفكر به ولا يحسّون كما نحس، لأن من قطع صلته بخالقه وأنكر فضل رازقه (جل جلاله) لا يكبر عليه أن يقطع صلته بأرحامه، الدين يدرك أنه مخلوق منهم وهم مخلوقون منه وفقا سنن أرادها الله، وإذا بلغ به الغرور هذا الدرك الهابط من السفالة فإن كلمة الفساد تصبح عنده بلا معنى، بل إنه يراها صلاحا، كما سبقت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" البقرة:11، وقد صحح لهم المولى (عز وجل) هذا الإعتقاد الفاسد المائل المنحرف، بإعلامهم بأنهم هم المفسدون، وعلة اختلاط مناشط الفساد عندهم بمساعي الصلاح هو تبلدّ شعورهم : "أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ" البقرة:11، فماذا تنتظر البشرية من شخص فاقد الشعور بوجوده، وفاقد الشعور بمن حوله، بل فاقد الشعور بوجود الله (جل جلاله) !؟ ليس بعد عبارة : "ويفسدون في الأرض" من إضافة إلاّ القول بأن المفسد لا يكتفي بالتفاعل مع ما هو فاسد من الأشياء ومن هم فاسدون من بني البشر، بل يأتي إلى الصالح فيفسده، لأنه لا يروق له التعاطي مع شيء صالح إلاّ إذا أخضعه لعملية فساد قيصرية، فالتجارة الحلال لا تروقه حتى لو درّت عليه الأموال الوفيرة، والطعام الحلال لا يستصيغه إلاّ إذا أخلطه بالمشبوه والحرام، والنكاح المشروع الطيب المباح لا يجد فيه متعته حتى يقارف ما هو من المحرمات، وكل الأشربة الطيبة المتوفرة في جميع أسواق العالم لا تنزل إلى حلقة طيبة قراحا إلاّ إذا شابتها "خمّره" بما يذهب فطرتها ويحوّلها عن طبيعتها إلى الإسكار والإفتار..بل إن جميع من أرسل الله من رسل وكل ما أنزل الله من كتب لا تقنعه إلاّ إذا "طوّعها" لهواه فتخيّر منها ما يعوجّ هو معه وما يبرر له حركة الفساد في الأرض، فإذا لم يجد وضع لنفسه "دينا" وسخر له من أدوات القهر والإكراه ما يجعل "دين الله" خادما لدينه ومباركا لفساده ومسبّحا بحمد شوكته وسلطانه، والله (جل جلاله) يقول : "قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" الحجرات: 16. فإذا حصل هذا ساد الظلم وانتشر الفساد وعمّت الفوضى واتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله، ونسوا البداية الفاسدة، وهي الخروج عن منهج الله أولا، ثم الكفر به ثانيا، ثم الصد عنه ثالثا ثم فرض الإعوجاج على حركة الحياة كلها أخيرا، وسبب كل هذا الإعوجاج هو تفضيلهم لما في الدنيا عما في الآخرة وحسمهم هذا الخيار نهائيا حتى صار لهم عقيدة قابلة للنقاش يعملون على التمكين لها بكل الوسائل، ولا يرون عدوّا لهم في هذه الدنيا إلاّ منهج الله، لذلك تجدهم يضعون على رأس قائمة معاركهم في الحياة معركة الصدّ عن سبيل الله "الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ" الأعراف:45، فقد وردت لفظة الإعوجاج في القرآن الكريم خمس مرات في أربع سور جاءت كلها مقرونة بالصد عن سبيل الله، كما هو وارد بالنص في آل عمران:99، الأعراف: 45 و86، هود:19، إبراهيم :03، فمنهج الله جاء لإصلاح الإعوجاج الناشئ في حياة الإنسان وفي حركة المجتمع. لأنه منهج مستقيم وهم يريدون الحياة منحرفة عوجاء، ولأنه دين يهدي إلى الصراط السوي وهم يريدون حياة لا صراط فيها ولا استواء..لأنهم اختاروا الدنيا وحدها ولم يختاروا معها منهج إدارتها، فكأنهم اقتنوا بضاعة ولم يستصحبوا معها "دليل تشغيلها" ولا دفتر صيانتها، من صانعها فما استمتعوا بها وما رعوها حق رعايتها، لأنهم مصرون على إخضاع كل شيء لشهواتهم ولما يحبون هم أن تكون عليه دنياهم، أما الآخرة فلا وجود لها في حسابهم : "الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ " إبراهيم :03، هذا الضلال البعيد هو نفسه الخسران المبين : "أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" لأنهم اختاروا هواهم منهجهم في الحياة وعاشوا به بعد أن قرروا الخروج عن منهج الله- فنقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وعاثوا في الأرض فسادا، ولأنهم حسموا أمرهم على هذا النحو، واختاروا نمط حياتهم وفق هذا الأسلوب، وعقدوا صفقة كاملة مع هوى النفس وسخروا كل طاقاتهم لخدمة منهجهم الترابي، وعاشوا حياتهم كما أرادوها، لا كما أرادها الله، فإن الفساد أصبج مكوّنا أساسيا من مكونات منظومتهم الحياتية في الفكر والتصور والحركة، وعودهم إلى الجادة أمر مستبعد، والنهاية هي الخسران المبين والخسران البعيد، لأنه خسران نهائي لا يقبل النقض ولا الطعن ولا إعادة المداولة: ذلك هو "الضلال البعيد". ولأن الفسق، في جوهره، هو خروج عن منهج الله، والكفر هو تغطية الحق بالباطل والظلم هو محاولة لإطفاء أنوار الحق ونشر الظلام في كل فراغات الحياة، فإن هذه السلوكات مدعاة للإستغراب : "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" البقرة:28. كيف تكفرون بالله؟ أو كيف تسول لكم أنفسكم خيالات حجب الحق، الذي هو جزء من تركيبتكم الخلْقية في عالم الذر، قبل أن تكونوا بشرا سويا؟ وكيف يحرم الإنسان نفسه من أن يتعرف على الإآه الذي خلقه؟ أليس أعظم حق في هذا الكون بعد الحق في الحياة- هو الحق في المعرفة؟ أو ليست قمة المعرفة تكمن في أن يعرف المخلوق خالقه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأي "معرفة" أعظم من أن ينعم الإنسان بمعرفة ربه : الخالق، الرازق، البارئ، المصور، الرحمان الرحيم.. لقد فسقوا، بإعتقاد أنفسهم خارجين عن المنهج، فقادهم فسقهم إلى الكفر بمن أكرمهم بنعمة اكتشاف ذاتهم من خلال هذا المنهج الذي كفروا به، فغرقوا في "تفاهة" الخلق والتطور عن أصول حياونية هابطة، وسفهوا بذلك عقولهم فلما اكتشفوا أن كفرهم مكابرة ليس فيها ما يبررها وفسقهم ضلال ما استطاعوا أن يقيموا عليه حجة، بهتوا أمام الحقائق الدامغة التي جاء بها هذا الكتاب المنير، كيف يكفر الإنسان بربه وهو خلقه؟ وكيف يخرج عن منهج الله وهو رزقه؟ وهل للكافر حجة يستطيع تقديمها على كفره وهو جاحد لما يعلم أنه موجود فالكفر بالشيء دليل على أنه موجود، لأنه (سبحانه) واجب الوجود قبل كل موجود- فلو لم يكن موجود ما كان للكفر به أي معنى، لأن من معاني الكفر : التغطية والحجب والإنكار لشيئ يدرك العقل أنه موجود ولكنه يسارع "بتغطيته" حتى يخادع نفسه بأنه غير موجود !! لذلك قال عنهم المولى (عز وجل) في هذا السياق : "وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا"؟؟ فبدل أن يتدبروا في المثال المضروب ليرشدهم إلى عظمة الخالق راحوا يستصغرون شأن البعوضة!! لقد ضرب لهم مثلا بمن أكرمهم بنعمة اكتشاف ذاتهم من خلال هذا المنهج الذي كفروا به فغرقوا في جدل عقيم وراحوا يبحثون عن أسرار ضرب المثال ببعوضة ولم يرتفعوا بالمثل إلى مقام سامق يتحدث عنه الله(جل جلاله)، فكانوا بذلك فاسقين، ثم بعد أن فسقوا، نقضوا عهد الله، ثم قطعوا أرحامهم ثم فسدوا في الأرض..وفي كل هذا المسار المعوج كانوا كافرين بالله.. فكيف تكفرون بالله؟ كل ما فيكم وما هو منكم وما هو لكم وما حولكم وما فوقكم وما تحت أرجلكم..يدعوكم إلى الإيمان بالله، حتى البعوضة التي احتقرتموها مؤمنة بالله مسبّحة بحمده!! وأنتم، بطولكم وعرضكم وعقولكم وعواطفكم و"سيادتكم" على جميع ما خلق الله مسخرا لكم..تكفرون؟ فكيف تكفرون بالله؟ ولو سألتم أصنامكم التي تعبدونها لتبرأت منكم ومن شرككم ولأعلنت أنها مسبحة لله، فكيف تكفرون أنتم بالله والرزق الذي يضمن لكم حياتكم بأسباب الله هو رزق الله، هو رزق الله، وكيف ثم كيف تكفرون أنتم بالله وأنتم منحدرون من الرحم الذي خلقه الله بقدرته واشتق له اسمه من اسمه "الرحمان الرحيم".. عجبا لهذا الإنسان، ما أكفره : "قتل الإنسان ما أكفره"!؟ بعد أن لفت نظرهم إلى غرابة ما يصنعون بأنفسهم، دعاهم هذه المرة إلى تجاوز الطعام والشراب والبعوض والأرحام وحركتهم في الحياة إلى شيء معجز يرعب المؤمن والكافر والمنافق، بل يحط السادة والكبراء والقياصرة والأكاسرة والجبابرة والعتاة..يحطهم من سامق أحلامهم إلى اليباب وقبض الريح..إنها قضية الحياة نفسها و"أسرار" الموت ذاتها، فقد يستطيع "متفرعين" أن يزعم أنه هو رازق الناس، وهو حارسهم وهو صاحب النعمة والفضل عليهم، بل وهو "ربّهم" الآمر الناهي المعزّ المذل..قد يأخذ الغرور بعض الفاسقين وبعض الظالمين وبعض الكافرين فيزعمون ذلك، بل وأكثر من ذلك، فيؤولون مثلا معاني الحياة والموت، كما فعل نمرود مع ابراهيم (ع)، ويخادعون كل البشرية يغرورهم ويكابرون ويستعلون بزعم العزة والذل والقدرة والقهر..فيقول أحدهم : "أنا أحيي وأميت" !! ويقول آخر : "وإنا فوقكم قاهرون" !! أو يقول : "أنا ربكم الأعلى"!! ثم يبالغ بالقول المستكبر : "ما علمت لكم من إآه غيري" !! وكلها أقوال بشعة بل هي غاية في البشاعة والشناعة، فكل إنسان، إذا فقد صلته بمنهج السماء، يملك أن يكذب على الناس وأن يزيف الحقائق وأن ينكر الحق وأن يجحد ما تراه عيناه، وأن يكفر بالله..لكن لا أحد يستطيع أن يكذب على نفسه ويخادعها إذا تعرضت لما يسلبها حقها في الحركة وهو الموت، ففي هذه اللحظة تتعطل أجهزة التزييف والتزوير والكذب والإدعاء و"تنتفض" الغريزة وحدها مدافعة عن حقها في البقاء (الحق في الحياة) لذلك واجه المولى (جل جلاله) غرور الفاسقين باستغراق كفرهم بالله بتذكيرهم بثلاث حقائق أزلية لم يترك فيها المولى (جل جلاله) أي مجال لصلف المستكبرين ولا لتلاعب الغافلين أو جهل المغرورين، ناهيك عن أن يجعلها موضوع مزايدة بين المستكبرين والمستضعفين : إنها قضية الحياة والموت. هل كنتم موجودين قبل أن يخلقكم الله؟ أم أنكم خلقتم أنفسكم؟ أم أنتم طارئون على الحياة؟ وإذا لم تكونوا موجودين ثم أوجدكم "موجود" فهل هذا الموجود هو أنتم أم هم آباؤكم؟ ولسوف ترحلون عن هذه الحياة الدنيا، هل هو رحيل بإرادتكم أم أنكم سوف تغادرون قهرا وكرها؟ وما دامت البداية ليست بأيديهم والنهاية كذلك، ليست بأيديهم، فماذا بقي لكم بين بداية لم تختاروها ونهاية لن تختاروها؟ من فتح قوس بداية دعوتكم إلى هذه الحياة الدنيا ومن سوف يغلق قوس نهاية إقامتكم فيها؟ إذا كان جوابكم عن هذه الأسئلة كلها منطقيا مع أنفسكم، فإن كفركم بالله يصبح قضية باطلة، ويجب الكفر بها لأنها لم تنبهكم إلى حقيقة البداية والنهاية. بعد كل هذا، كيف تكفرون بالله؟ هذا الإآه الذي تكفرون به هو الذي استدعاكم إلى الحياة بقدرته ولطفه وعفوه ومشيئته من بعد علمه، هذا الإآه الذين تكفرون به هو الذي أوجدكم من عدم، إذا قال أحدكم : لا، لم أكن عدما فقد كنت نطفة في ترائب أمي وحيوانا منويا في صلب أبي، كنت ماء متفرقا ثم جمعته الأسباب فكنت أنا، فلسوف يواجهك السؤال مرة أخرى : من خلق النطفة، ومن خلق الحيوان المنوي، ومن جمع بينهما في قرار مكين؟ ومن خلق النطفة علقة ومن خلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظاما وكسا العظام لحما؟ ومرة أخرى وثانية..وألفا : كيف تكفرون بالله؟؟ إن اعترافك بأنك كنت نطفة دليل على اعترافك بأن خالقك هو الله، وأن خصومتك لله وجحودك له وجدلك للمنهج الذي أنزله واستعلاءك عليه..كلها سلوكات تدينك من تلقاء نفسها دونما حاجة إلى براهين إضافية، هل تكفر بمن خلقك من نطفة وتصبح له خصيما مبينا !؟ سبحان الله : "أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا " الكهف:37، وإذا انكرت "أصلك" وتنكرت لخالقك فهل تستطيع أن تمنع الموت عن نفسك؟ هل تملك أن تخلد فلا تموتّ؟ هل بقدرتك أن تؤخر النهاية لحظة واحدة؟ إذا قلت : نعم، فالواقع يكذبك، وإذا قلت : لا، فكيف تكفر بالله المالك لبدايتك ونهايتك؟ أليس هو الذي استقدمك إلى هذه الحياة الدنيا وسخر كل سننها وأسبابها وأعطاك حرية واسعة لتساهم في دورة الحياة وحركة الوجود، وفق منهجين معروضين عليك، وأنت الذي اخترت المنهج الذي أردت وعشت وفقه عمرك المقدر لك،وعندما شاءت أقدار الله نهاية لوجودك في هذه الحياة الدنيا، أنهى حياتك بإرادته كان قد كتبها لك وسوف "تنام" طويلا في رواقات البرزخ ثم يأتي البعث لتبدأ الحياة الثانية التي يقوم حسابها على حصيلة الحياة الأولى، ولكن لا صلة لها بها، لأنها حياة من نوع جديد، وإذا كان المؤمن والكافر والمنافق يشتركون في التسليم ببداية الحياة ونهايتها مع اختلاف في تقدير الكيفيات- فإن تسلسل زمن الحياة الأولى سوف ينهيه الموت ويبدأه البعث، ولكن لكل فرد ميتته الخاصة به، أما البعث فحدث عام لمن ماتوا أجمعين، ليكون لكل إنسان حسابه الخاص، فحياة الفرد لا تقاس بعمر الدنيا الطويل نسبيا وإنما تقاس بعمره هو المجهول البداية والنهاية مقارنة بمتوسط أعمار جيله، ومن هذه المقدمات المشتركة يفترض أن نستخلص النتائج المفضية إلى التسليم بوقائع الحياة الثانية : "ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" البقرة:28، ترجعون جميعا مؤمنكم وكافركم ومنافقكم، ولم يقل : ثم تَرجعون، بل قال : "إِلَيْهِ" تُرجَعون، فهي رجعة إلى الخالق الرازق المحيي المميت الذي كفر به من كفر، وآمن به من آمن وارتاب في منهجه من ارتاب ونافق من نافق..لكن الجميع راجع إليه بقوة القهر لا بأسباب الإختيار، وما دامت البداية جبرية والنهاية كذلك، فليكن ما بين البداية والنهاية فسحة لشكر المبدئ وذكر المعيد لتنسجم مرحلة الإختيار مع قهرية البداية والنهاية. فلا أحد اختار الأرض (الوطن) التي سيولد فيها ولا أبويه، ولا الزمان الذي سوف ينزل فيه "ضيفا" على هذه الدنيا، ولم يختر جنسه (ذكرا أو أنثى) ولم يختر لونه وشكله وطوله وعواطفه وغرائزه وميولاته الفطرية، فقد ركّب الله فيه ما شاء و"نقش" في سلسلة التوارث الجيني ما يريد ثم استدعاه ليأخذ فرصته في حركة الحياة. ولا أحد اختار نهايته، حتى لو أنهاها بالإنتحار، لأنه اختار أسباب موته سلبا كما يختارها الشهيد إيجابا، ولكن النهاية يقرّرها الله، لذلك نسمع عن "محاولات الإنتحار" كما نسمع عن "الباحثين عن الشهادة" ومشاريع الشهداء، فلا ينالها إلاّ من كتبه الله له شهيدا، لأن الحياة والموت بيد الله وحده، وليس للإنسان إلاّ احترام واجبات "الضيافة" وآدابها في هذه الدنيا، لأنه في آخر المطاف- راجع من حيث جاء، وكأنه كان موجودا في صورة ما في مكان ما- ثم جاء طارئا على هذه الدنيا، بالهيئة التي أرادها الله له، في الزمان والمكان والجنس ومدة الإقامة فوق هذه الأرض، فقضى فيها أجلا مسمى ثم قفل راجعا إلى حيث يجب أن يعود : "ثم إلينا تُرجعون". فالرجوع إلى الله جبْرية لا اختيار فيها، كما أن المجيئ من عند الله جبْرية لا اختيار فيها، وفرصة الإختيار الوحيدة هي المرحلة الممتدة بين قوس الميلاد وقوس الممات في هذه الحياة الدنيا، أي أن الإنسان مخيَّر في أفعاله الواقعة منه (وليس الواقعة عليه أو فيه) بين الميلاد والموت، لذلك، لا يحاسبنا الله على ميلادنا ولا على وفاتنا، وإنما يحاسبنا على "الحركة الحرّة" التي استمتعنا بها في حياتنا الدنيا، وكيف تعاملنا مع منهج الله،هل آمنا به فضبطنا حركتنا في الحياة وفق معالمه وتوجيهاته وأوامره ونواهيه وحلاله وحرامه..أم كفرنا به وخرجنا عنه ونقضنا عهد الفطرة مع الله وقطّعنا أرحامنا وعثنا في الأرض فسادا، أم عشنا حياة النفاق فلا نحن مسلمون، فنحن مع المنهج، ولا نحن كافرون ، فنحن ضده، وإنما نحن مذبذبون: " بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء" لكن الرجْعة إلى الله محكومة بقهرية البداية والنهاية.