عرفت جزائر الستينيات والسبعينيات أحداثا بارزة، ومنها مناقشة مشروع الميثاق الوطني في 1976، الذي كان محاولة من الرئيس بومدين لإعطاء نوع من الشرعية الشعبية لمشروعه الذي صاغه في هذا الميثاق، والذي سينبثق عنه دستور1976 وكل سياسات البلاد، وكانت القناة التلفزيونية الوحيدة التي يشاهدها الجزائريون تختار مقاطع حول تلك المناقشات لبثها، وردد آنذاك مطلب شعبي بتطبيق مبدأ "من أين لك هذا؟" بشكل قوي جدا لدرجة ترسيخه في ذهن أي كان حتى ولو كان صغيرا جدا لايفقه شيئا، فهذا المبدأ أقره الخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب انطلاقا من محاربة الإسلام للكسب غير الشرعي، ولم يكن جزائريو قبل الثمانينيات يبالغون في الحديث عن الدين على عكس اليوم، فكانوا يطبقون دينهم بالفطرة وبممارسات بسيطة تحكمها الأخلاق والأفعال لا الأشكال، وتتلخص اهتماماتهم في بناء الجزائر التي استرجعت استقلالها وإقامة دولة قوية وعادلة في توزيع الثروة، ولهذا تكرر هذا المبدأ كثيرا، لكن لم تصغ السلطة لهذا المطلب الشعبي، ورفضت وضع الإجراءات المؤسساتية والقانونية لتطبيقه، لأنه إذا ماطبق، فأول من سيعاقب به هي عناصر كانت تستغل نفوذها السلطوي، لتنهب الثروة بأشكال ملتوية في ظل غياب مؤسسات ديمقراطية رقابية فعالة. لم أشر لهذا كي أسرد أحداثا تاريخية، بل لأتطرق إلى ظاهرة الغياب والتغييب التام لهذا المبدأ والمطلب لدى الجزائريين منذ الثمانينيات إلى اليوم، وبالضبط منذ بدايات صعود تيارات سياسية دينية في عدة بلدان، ومنها الجزائر، وقد ربط بعض الأكاديميين ذلك الصعود بتحالف البترودولار الخليجي مع عناصر من السلطة، تتاجر بالدين لتمرير مشاريع مشبوهة تسمح بتبييض أموال منهوبة، خاصة بعد ترويج دول خليجية لفكرة "بومدين التغريبي والمحارب للإسلام"، إلا لأنه فضح دعمها سياسات تستهدف استغلال المستضعفين المسلمين في مؤتمر القمة الإسلامية بلاهور في1974. تم تغييب كلي اليوم لمبدأ "من أين لك هذا؟"، ولو طبق، لما عرفت الجزائر هذا النهب المنظم لثرواتها، والذي أفقر الطبقات الشعبية، فبالرغم من أنه مبدأ إسلامي، لكن لا يشير له أحد، وعلى رأسهم الذين صدعوا رؤوسنا، ويلهون شعبنا بنقاشات عقيمة بعيدة كل البعد عن روح وجوهر ديننا، ويبالغون في سب الغرب، لكنهم يخفون ويتسترون على أن أغلب دوله تطبق هذا المبدأ إلى جانب مباديء وقيم كثيرة هي من صلب إسلامنا، وأقامت مؤسسات وميكانيزمات وإجراءات عملية لوضعها حيز التطبيق، فإن ظهرت مثلا مظاهر ثروة على أي شخص، لا تتناسب مع مدخوله، يتم فتح تحقيق قضائي مباشرة حول ذلك، لأنه في نظر القانون، إما أنه متهرب من دفع الضرائب أو متاجر في الممنوعات كالسلاح والمخدرات أو متلقى لرشاوي، أليس هذا تطبيقا فعليا لهذا المبدأ، فلما لايتحدث عنه أي أحد منذ الثمانينيات، ولا يطرحه بشكل عملي أي حزب من أحزابنا اليوم؟.