بقلم: محمد عبدون تعتبر القضيَّة البربريَّة في الجزائر من بين القضايا الشَّائكة، والتي تشغل الرَّأي العام بدرجات متفاوتة، تارة تعلو أصوات المدافعين عنها و تصل إلى حدّ التَّأزيم كما حدث ذلك فيما سمي بالربيع الأمازيغي في مطلع الثَّمانينيات، أو الأحداث المأساويَّة التي عشناها في بداية الألفيَّة فيما اصطلح عليه ب "حركة العروش"، و تنخفض حيناً هذه الأصوات لتنشغل بقضايا أخرى هامشية تصنعها السّلطة لكسب المزيد من الوقت كي تُعيد ترتيب الأوراق بما يفيدها فيما بعد. تنازلت السّلطة في مرات عديدة عن ثوابت اعتبرتها خطا أحمر، آخر هذه التَّنازلات تمثَّلت في ترسيم اللّغة الأمازيغيَّة بالتّعديل الدّستوري الأخير الذي أقرّه الرّئيس بوتفليقة، و هو نفسه الذي اعتبر – في بداية حكمه- أنَّ هذا الأمر لن يمرّ دون استفتاء شعبيّ، ليتنازل مُؤخراً عن رأيه، و يلبي أهم مطلب للحركة البربريَّة في الجزائر. وفي مقابل هذه التنازلات، والتي يمكن اعتبارها إنجازات تحسب للحركات البربريّة في الجزائر، تطلّ علينا حركة متطرفة أخرى وصل بها الأمر إلى حدّ المطالبة باستقلال منطقة القبائل عن الجزائر، و هذا مطلب غير مسبوق لم تعهده الجزائر من قبل، و لم تمارسه أي حركة من الحركات التي تدافع عن الهوية الأمازيغيَّة، وهذه التّطورات الأخيرة دفعتنا إلى التّحري عن المسار التّاريخيّ للقضية البربرية وتتبعها أركيولوجياً، بدءاً بظروف ظهورها إلى العلن و أسباب تطور و تطرّف خطابها، من خطاب يدعو إلى الاعتراف بالبعد الثّالث للهوية الجزائريَّة (اللّغة و الثّقافة الأمازيغيّة بجميع مكوّناتها) إلى خطاب يدعو للحكم الذَّاتي أو بعبارة أدق (الانفصال)، رغم أنَّ دعاة هذا الأخير لا يملكون في الحقيقة أي قاعدة شعبية مؤيّدة يبنون عليها خطابهم الذي وراءه – من دون شكٍّ- أيادٍ أجنبيَّة تسعى إلى تفتيت الوحدة الوطنيَّة. هناك من يُعيد بداية الأزمة البربرية في الجزائر إلى بداية الاستعمار الفرنسيّ و محاولات إدارته تفكيك بنية الشّعب الجزائريّ ومقوّماته، مما يسهل عليه استعماره انطلاقاً من سياسة شعارها " فرق تسد"، و في هذا السّياق قال الكاردينال لافيجري، صاحب الحملة التّنصيريّة التي انتهجها الاستعمار الفرنسيّ في الجزائر- أثناء مؤتمر للتنصير بمنطقة القبائل " …إن رسالتنا تتمثل في أن ندمج البربر في حضارتنا التي كانت هي حضارة آبائهم…"، ولتحقيق هذا الغرض استعملت الإدارة الاستعماريَّة العديد من الأساليب لاستمالة سكان المنطقة لمشروعها، فحاولت تكوين نخبة من الإطارات -تؤمن بهذه الفكرة- لتؤدّي فيما بعد دوراً مهمّا في تأليب سكان هذه المنطقة على المناطق الأخرى، و أيضاً سمحت هذه الإدارة لسكان منطقة القبائل بممارسة عاداتهم وتقاليدهم بكل حرية ودون أي قيد، عكس باقي مناطق الوطن. وفي هذا الصدد، يرى الباحث الجزائريّ في التاريخ بجامعة السربون "علي قنون"، أنّ هذه السّياسة لم تفرز إلّا قلة قليلة من النّخب الدّاعية إلى الاندماج، وأكبر دليل على فشل الخطط الاستعمارية في المنطقة، هو أن غالبية الأعضاء المؤسسين لأول حزب جزائري يطالبون بالاستقلال( "نجم شمال إفريقيا" قي سنة 1926 كانوا من أبناء منطقة القبائل). وهناك رأي آخر يرى أنَّ القضيَّة البربريَّة ظهرت إلى العلن، أثناء مؤتمر حزب الشّعب سنة 1949 ما عرف فيما بعد ب " الأزمة البربرية"، حيث رفض العديد من المناضلين للمذكرة التي قدمها مصالي الحاج إلى منظمة الأمم المتّحدة؛ والتي اختزل فيها الهوية الجزائريّة في الانتماء إلى العروبة و الإسلام، مُزيحاً الأمازيغ، و هذا ما أثار حفيظة أغلب المناضلين المنحدرين من منطقة القبائل، و على رأسهم " والي بناي و اعمر ولد حمودة"، و اعتبروا القرار المصالي – نسبة إلى مصالي الحاج- ديكتاتوريا، وعابوا على مصالي الحاج الذي لم يستشر المكتب السياسي للحزب في مسألة جد حساسة كمسألة الهوية الوطنيَّة، مع تغييبه للعمق الأمازيغي للشعب الجزائريّ، واعتبروا هذا الأمر بداية لتحريف التّاريخ وفصل الشعب الجزائري عن جذوره، و قد كانت هذه الأزمة نقطة البداية لتشكيل تيار معارض داخل حزب الشعب يدعو إلى الاعتراف بالأمازيغية كثابت في الهوية الوطنيّة، و يرى المحامي علي يحيى عبد النور، في كتابه حول "الأزمة البربريّة"، أن هذا الموقف الذي اتّخذه المعارضون داخل الحزب سيكلّفهم فيما بعد ثمنا غاليا؛ حيث تمّت مطاردتهم من الحزب من قبل المتعصبين العروبيين، و اتّهموهم بالانفصاليّة ليتخذ القرار فيما بعد بتصفيتهم، و لقد تمّ على إثرها، فعلا، اغتيال ولد حمودة ومبارك آيت منقلات في سنة 1956، و بعدها بعام أيضا تمَّ اغتيال المناضل وعلي بناي. يتضح جليا من خلال هذه الممارسات أن القضيّة البربريّة ميلادها لم يكن مدبرا له و إنما كان وليد ظروف سياسية، تاريخية، و كرد فعل مشروع على جماعة حاولت فرض أنموذج أيديولوجي يكرّس إقصاء الآخر بدلا من حركة ديمقراطية تعترف بالتعدّدية و الاختلاف. للتأكيد على أنّ الأزمة لم تكن لتظهر إلى الوجود لو كانت الرؤية المطروحة عن الجزائر المستقلة شاملة جامعة لا تقصي أي من مكوّناتها الثّقافية و اللّغوية. بادر المناضلون" الباربريست" بطرح مشروع ما سمي بالجزائر الجزائرية ، حيث كان يؤمن أصحاب هذه الفكرة بجزائر جامعة لا تقصي أحداً، لا دينياً، و لا لغوياً، و تجعل جميع الجزائريين في جبهة واحدة لمواجهة مصير مشترك، وقد كتب الباحث الجزائريّ الطيب آيت حمودة عن هذا المشروع معتبرا إيّاه سابقة في عصره عاكسا لأبهة أصحابه، و جاء لقطع الطريق على المزايدين و المتاجرين في الوطنية، "… بعيدا عن كل المزايدات المغرضة التي تخدم فكرة أقدامنا في الجزائر، وعقولنا خارجها شاردة واردة، أو متماهية مع المشارقة والفرنسيين، دون أن نعلم بأننا أمة قائمة بذاتها لنا من الخصائص والأصالة والمهابة ما يجعلنا جديرين بأن نكون جزائريين معتزين بذلك بين الأمم الأخرى". وبعد الاستقلال انتهج النّظام القائم سياسة تعريبية موجهة ضمن مشروعهم القومي العروبيّ، ما ساهم في تزايد الاحتقان والامتعاض لدى سكان منطقة القبائل جراء التّهميش الذي طال اللّغة الأمازيغيّة. لقد حاول العديد من المثّقفين والباحثين ،التّعريف باللّغة/ الثّقافة الأمازيغيّة، كما بادروا إلى تأسيس أكاديمية تُعنى بجمع و نشر التّراث الأمازيغيّ وكان مقرها بباريس، لكن تأثير هذه الأخيرة لم يكن يلقى آذانا صاغية لدى السلطة الحاكمة، و النقطة التي أفاضت الكأس وأخرجت القضيّة من بوتقتها النّخبويّة وأكسبتها بُعداً جماهيرياً، هي منع السلطة للباحث مولود معمري لإلقاء محاضرة بجامعة تيزي وزو، ما دفع بالطلاب إلى الخروج للشارع في 10 مارس 1980 تعبيراً عن رفضهم لهذه السّياسة الإقصائيّة المنتهجة من قبل النظام الحاكم، والتي مسّت كل ما له علاقة بالأمازيغيّة، و لقيت هذه التحركات الطلابيّة استجابة واسعة من قبل سكان منطقة القبائل، حيث نظموا مظاهرات مليونية لم تشهدها الجزائر من قبل، و ساهمت هذه الأخيرة في كسر حاجز الخوف لدى سكان المنطقة و رفعوا سقف مطالبهم، وحملوا شعارات تطالب بوقف التّهميش والقمع الثّقافي، وكان رد السّلطة على هذه المظاهرات مضطربا لشدة الصَّدمة التي لم تعهدها، فكان ردها متأخرا وقمعيّاً و لم تستجب لمطالب المتظاهرين، ورغم تعنت السلطة إلّا أنَّ هذه المظاهرات أكسبت القضية البربرية بعداً شعبيا وكسرت الحظر عنها، و كانت نقطة البداية للعديد من الأحداث التي ستتوالى فيما بعد. بعد أحداث الرّبيع الأمازيغي بدأ النضال يتخذ مناحي جديدة أفرزتها العديد من المستجدات الوطنيّة؛ خاصة الانفتاح الدّيمقراطيّ الذي عرفته الجزائر في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث بدأت العديد من الفعاليات تنظم في شكل أحزاب و جمعيات لتباشر نضالها السّياسي من أجل تحقيق غاياتها ومطالبها، و بدأت السلطة بالانفتاح على هذه المطالب تدريجيا، واحتضانها رغماً عنها، وتم على إثرها تأسيس المحافظة السامية للأمازيغية بأمر من الرئيس الأسبق اليامين زروال، و بعدها شرعت وسائل الإعلام العموميّ التّابعة للسلطة في الاهتمام بالثقافة الأمازيغيّة و بدأت في بث نشرات إخبارية ناطقة بعدة لهجات أمازيغية. بعد هدوء نسبي للأحداث الدّموية التي عاشتها الجزائر في العشريّة السّوداء، و هذا بعد قدوم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم عام 1999، واتّخاذه لسياسة المصالحة الوطنيَّة، عاد السجال مرة أخرى إلى منطقة القبائل وتصدرت أخبارها العناوين، في بداية شهر أفريل من عام 2001 اندلعت موجة غضب كبيرة بعد وفاة شاب من المنطقة برصاص دركي، اعتبرها سكان المنطقة كامتداد للإقصاء و التّهميش الذي عانوا منه طويلاً، و رافقت هذه الأحداث ظهور "حركة العروش" كناطقة باسم هذا الحراك، وقادت المفاوضات مع الحكومة لتحقيق مطالب ما سمي ب "أرضية القصر"، و ضمَّت هذه الأرضية مطالباً ثقافية و لغوية و الملاحظ في هذه المرة تصدر المطالب الاجتماعيّة لاهتمامات سكان المنطقة، و حقّق هذا الحراك عدّة نتائج إيجابية؛ في سبيل الدّفع بالهوية الأمازيغيّة؛ حيث حققت مكسبا مهمّاً، بالاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية، وهدأت السّاحة لمدة طويلة بعد ذلك، إلى أن تمّ ترسيم اللّغة الأمازيغية كلغة وطنية- وبشكل رسميّ- إلى جانب اللغة العربيّة في التّعديل الدّستوريّ الأخير، و يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة وضع العربة في السكة الصّحيحة؛ من أجل إيجاد حلّ نهائيّ يستوعب الثّقافة / اللّغة الأمازيغيّة ضمن ثوابتنا الوطنيّة، رغم أنّ هذا التّعديل جاء سياسياً أكثر منه ثقافياً إلا أنّه ساهم بقطع الطّريق أمام الكثيرين ممن يريدون استغلال هذه القضية في صالحهم لتحقيق مآرب شخصية أو استجابة لأجندات أجنبية لا تخدم المصلحة الوطنية، و في خضم مناقشة هذا التّعديل أطلّ علينا فرحات مهني في حوار بثّ على قناة فرنسية، يطالب فيه باستقلال منطقة القبائل وانفصالها عن الجزائر، وهذا تطور خطير في مسار القضيَّة، لكن هذه المطالب المتطرفة – التي تنم عن الأهداف المبيتة لتقسيم الشّعب الجزائريّ الواحد – وجدت معارضة شديدة من قبل سكان منطقة القبائل و أكبر دليل على ذلك غياب أي قاعدة جماهيرية مُؤيّدة لها. المتتبع لمسار القضيّة البربريّة يُدرك أنه منذ ظهورها إلى العلن لم تُطالب سوى بحقوقها الطّبيعيَّة، ورغم كل المماطلات التي اعتمدها النظام، إلّا أنّ إرادة سكان المنطقة ومناضيلها كانت فوق ذلك وحقّقواً مطالبهم، ويجب الإشارة إلى أنّ حقيقة أزمة الهوية التي لازلنا نعايشها في الجزائر، بحيث نجد هناك اتجاهين، كل طرف يقرأ التّاريخ بما يخدم مصالحه و إيديولوجيته وميولاته السياسية، فبالنسبة لدعاة التّعريب تاريخ الجزائر ينحصر في الإسلام و العروبة، و التاريخ فيها يبدأ من مجيء الإسلام، أما دعاة الأمازيغية فيختزلون التاريخ في الماضي البربري للجزائر و عجلة التاريخ عندهم تتوقف عند الفتح الإسلامي، أما الحقيقة التي نعتقدها وترسخت لدينا أن هوية الجزائر لا يمكن حصرها في بعد واحد و تاريخها لا يمكن اختزاله في حضارة واحدة، وهو كل لا يتجزأ ومراحله المتداخلة هي التي أنتجت لنا الهوية الوطنية بمقوماتها المتعددة.