بقلم: الدكتور يوسف بلمهدي وقفت على قول الله سبحانه وتعالى من سورة الشورى: لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ (سورة الشورى: الآية 49-50) آية مباركة فيها لفتات عظيمة سنقف على بعض سرها واستجلاء بعض نورها. قال الحق سبحانه وتعالى يقر قرارًا مهمًا بأنه يخلق ما يشاء وليس لأحد أن يقترح على الله سبحانه عزّ وجلّ، لأن الله تعالى لم يستشر عباده في كيفية خلق السماء، ولا في كيفية خلق الأرض، ولا في كيفية خلق أنفسهم، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (سورة الكهف: الآية 51)، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى الخلق من اختصاصي فأنا الذي أخلق ما أشاء، وأفعل ما أشاء، لا أُسأل عما أفعل، وأنتم فقط تسألون في قوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة فاطر: الآية 1)، فهو الذي إن شاء جعل ملائكة ذات أجنحة كثيرة مثنى وثلاث ورباع ويزيد في الخلق ما يشاء، وقيل الزيادة هنا بمعنى الحسن، فيجعل أحد الناس حسن الوجه، وقديما قالوا:«ثلاثة هن مذهبات الحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن»، وقيل الزيادة هي حسن الصوت وعذوبته، فهذا من نعم الله تعالى واختصاصاته، فقال سبحانه: لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ (سورة الشورى: الآية 49) فلماذا يا ترى تناقشون الله سبحانه عزّ وجلّ فيما أعطاكم وفيما وهبكم؟ فقال: يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) /أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (سورة الشورى: الآية 49-50)، هذه حالات أربع لا يخلو منها حياة زوجين اثنين، إما أن يرزقهم الله تعالى الإناث، وإما أن يرزقهم الله تعالى الذكور، أو يرزقهم الاثنين معًا: الذكور والإناث، أو يجعل من يشاء عقيمًا فلا يرزق بنعمة الولد. غير أن اللفتة التي أريد أن أشير إليها كيف أن الله تعالى قدم الإناث على الذكور على غير العادة يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ، وأكثر الآيات في القرآن الكريم تقدم الذكر على الأنثى، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (سورة الحجرات: الآية 13)، وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر في سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36)"أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى"فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) (سورة القيامة: الآية 36-39)، ولم يقل الأنثى والذكر، فما الفائدة يا ترى من تقديم الإناث وتأخير الذكور في سورة الشورى؟. قال العلماء إجابة عن هذا السؤال إن الإنسان يحب الذكور كما في عادة العرب جميعًا فهم يرغبون في الذكر كثيرًا، بل يعتبرون البنت عارًا وعورة، ولذلك كانوا يئيدون بناتهم، كما في قوله تعالى وسنعود إليه: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ (9) (سورة التكوير: الآية 8-9)فبدأ الله سبحانه عزّ وجلّ بالشيء الذي يريده هو سبحانه، وهو مخالف لمشيئة الإنسان حتى يحقق معنى يخلق ما يشاء، أي لا دخل لكم في كوني أنا الذي أتصرف فيه، وأنا الذي أعلم ما يصلح فيه، وأنا العليم القدير، كما انتهت هذه الآية، أعلم لماذا أعطي الأنثى ولماذا أخلق ذا وذا، وأقدر على منعك من هذه النعمة أيضا، فأراد الله تعالى أن يقول لهم أتركوا إرادتكم مع إرادة الله، ومشيئتكم مع مشيئة الله، فقدم المهم والأهم الذي لا يرغب فيه الناس حتى يبين لهم الله سبحانه عزّ وجلّ بأنني أنا الخالق: أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58)"أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59) (سورة الواقعة: الآية 58-59)، فالله تعالى هو الذي يخلق ولا يسأل سبحانه عزّ وجلّ لماذا وهب كذا ولماذا منع كذا. وأمر آخر في هذه اللفتة القرآنية أن التبكير بالأنثى فضل ونعمة من الله سبحانه عزّ وجلّ، فعندما قال يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا أراد أن يوافق الحديث النبوي الشريف:«طوبى لمن بكر الله له بالأنثى» أي من رزقه الله تعالى أنثى أولا فكأن الله تعالى اختصه بفضل منه، وكرم وزيادة فضل. وفي لفتة أخرىقوله تعالى: يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا بالتنكير وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ بالتعريف، فما الفرق بين هذا التعريف وذلك التنكير؟، يقولون بأن التنكير أولاً لأن الإنسان يرغب في هذه النعمة، ولكنه يهرب منها ولا يحبها،فيريد أن يكون له أولاد ولكنه يريد أن يستر هذا الأمر، فكأنه يريد أن يكون نكرة حتى لا يعرفه الناس ولا يعرفون به، وكأنهم يقولون إذا رزقنا بأنثى لا نذكر الذِكر الحسن عند الناس فنكون نكرة بخلاف الذَكر، وكذلك الله سبحانه عزّ وجلّ يقول: وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أي أولئك الذكور المعهود لديكم فضلهم وشرفهم أنا الذي أعطيه، فلذلك جعل هذه الكلمة معرفة بالألف واللام، وقف معي عند قول الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ (9) (سورة التكوير: الآية 8-9)، لماذا؟ لأن الله تعالى بيّن لنا في آية أخرى في سورة النحل كيف أن الإنسان يغتاظ عندما يرزقه المولى بهذه البنت وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) (سورة النحل: الآية 57-59)، عجيب كيف يتصرف الإنسان مع هذه النعمة،ومع هذه الهبة فيقتلها ويدسها في التراب، ولكن الحق سبحانه قال: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ (9) (سورة التكوير: الآية 8-9) فالسؤال المطروح: هل السؤال يتوجه إلى القاتل أم إلى المقتول؟، نسأل من القاتل ولماذا قتلت؟ لا نسأل المقتول من هو، ولا لماذا قُتل؟في الحقيقة هذا أسلوب تبكيت وتوبيخ للقاتل، الذي فعل الجريمة بمن هي أمه وأخته وزوجته، ولم تفعل ذنبا أو جرما، فكأن الله تعالى جرحه جرحًا عميقًا بهذا السؤال: وإذا الموءودة المسكينة البريئة سئلت بأي ذنب قتلت؟ ولنا نظرٌ في هذا الأسلوب، ورأي في هذه الصياغة،أن الله سبحانه وتعالى احتقر القاتل وأهمله فلم يخاطبه، لأنه لا يستأهل أن يتوجه إليه الخطاب الإلهي حتى بالعتاب والتبكيت، أما الضحية والمقتولة فهي في عين العناية والرعاية، ولذلك خلد ذكرها وأكرمت في جنة الخلد، فافهم هذه النكتة الرائعة. ثم أنظر إلى أن الله سبحانه عزّ وجلّ لم يأمرنا أن نستبشر بالبنت حال الولادة: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ (سورة النحل: الآية 58-59)، الله تعالى عاب عادة على مجتمع الجاهلية الذين كانوا لا يحبون النساء، رغم أن المرأة هي الأنثى التي ولدته، وهي الزوجة التي يعاشرها، وهي الأخت التي تقاسمه الحياة، وهي عمته، وهي خالته، لذلك أراد الله تعالى أن يوجهنا التوجيه الأحسن بتقبيح الصورة المقابلة التي لا يحتاج النظر الصحيح والفكر السليم إلى توجيه بعد ذلك، ولذلك أمرنا الله تعالى وتأسف القرآن على الذي لا يستبشر بهذا المولود ، ولم يقل لنا استبشروا بالبنت لأنه في الحقيقة كان ينبغي أن يكون ذلك هو الأصل، ولكن مع الأسف الشديد تغيرت الأصول وقام الناس بالفروع وجعلوا منها رأس مال، ثم مادام أن الأصل هو الفرح بالأنثى تماما كالذكر فإنه لا يرجع الأمر إليه، ولكن الله تعالى يهيب بنا أن نرفض الأمر العارض الذي شاب هذا الأصل، تماما كما فعل الحق سبحانه وتعالى حين أوصى الولد بوالديه ولم يوصي الوالدين بالأولاد، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ (سورة النساء: الآية 11)، في معنى الوصية الواجبة لبيان القسمة أو تقسيم الميراث والتركة، ولكن قال الحق سبحانه عزّ وجلّ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا (سورة العنكبوت: الآية 8)فبين الله سبحانه عزّ وجلّ بأنه مادام الذكر كالأنثى في كونهما هبة من عنده سبحانه فلماذا يقول لك الحق استبشر بالأنثى أو استبشر بالذكر؟ ولكن تركه الله سبحانه عزّ وجلّ على هذا النحو، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ختم خطبة الوداع بقوله: «استوصوا بالنساء خيرا»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ساووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت الإناث»، كل ذلك دليل على أنه ينبغي على الإنسان أن يترك هذه الأخلاق الجاهلية وأن يلتزم قول الله سبحانه عزّ وجلّ، بل عليه أن يفرح تحقيقًا لقول الله تعالى: يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) "أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا، (سورة الشورى: الآية 49-50) في آخر مرتبة لأنها قاسية فعلاً، ولكن الرضا بقضاء الله تعالى وقدره يجعلك توقن وتقف عند قوله سبحانه إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عليم لماذا أعطاك، وعليم لماذا منعك، وإذا أردت أن تستزيد فاقرأ سورة الكهف وقصة الوالدين الذين رزقهما الله تعالى ولدًا ولكنه لو عاش لكان جبّارًا في الأرض وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) (سورة الكهف: الآية 80-81).