عمر الدريسي هل بفشل انقلاب جويلية 2016 العسكري، وباستفتاء 16 من أفريل 2017، الذي أقَرَّ التغييرات الدستورية التركية، المقترحة من قبل حزب العدالة والتنمية الحاكم (317 نائب برماني من أصل 550)، والحزب القومي (49 نائبا برلمانيا من أصل 550)، وهما الحزبان الرئيسيان من التيار المحافظ، وجبهة المؤيدين ل "نعم". مقابل التيار العلماني، جبهة الرافضين، وهي جبهة المعارضة للتغييرات المقترحة، والمُستفتى عليها، والتي كانت تدعو إلى التصويت ب "لا"، ومنهم حزب الشعب الجمهوري (133 نائب برلماني من أصل 550)، والأحزاب اليسارية والعلمانية وعلى رأسها، الحزب الشيوعي. وبالمصادقة الشعبية بعد فرز نحو 99.8 في المئة من الأصوات، أظهرت نتائج رسمية أن 51.3 في المئة صوّتوا ب"نعم" لصالح التعديلات في مقابل 48.65 صوّتوا ضدّها. هل ستكون تركيا، ولو بأغلبية ضعيفة، قد أقرت بالعودة عن الفلسفة الأتاتوركية العلمانية إلى الفلسفة الأردوغانية المحافظة..؟؟، هذا ما يجعلنا نمطط التساؤل، التمطيط الذي سيفرض علينا، ليس كتابة مقال وحسب، بل ربما مؤلف، لكي يستجمع المعطيات من كل جوانبها، لكن لابد من اعتصار ذلك التمطيط، بالتركيز المُمكن، فيما يلي من فقرات المقال. هل ما لم تنجح فيه العلمانية السياسية الأتاتوركية، نسبة إلى مؤسس تركيا الحديثة وبطلها القومي في أعين مريديه، حيث كان له الفضل في الوقوف ضد اتفاقية سيفر عام 1920م، والتي كانت تهدف لتقسيم تركيا بين الأرمن والأكراد والدول الغربية وترك قطعة صغيرة في وسط الأناضول للأتراك، غير أن نجاح مصطفى كمال أتاتورك، بقيادة حربٍ ثوريةٍ ضد هذه التطلعات، أفضى إلى الشكل الحالي للجمهورية التركية جغرافياً. ورغم هذا الإنجاز، يبقى عدو الإسلام، ومحطم الخلافة في أعين خصومه، وعلى رأسهم، مُريدو الإسلام السياسي، حيث تمكن في سنوات قليلة من البروز كقائد عسكري ثم كزعيم سياسي، حيث ألغى الخلافة العثمانية، وأسس مكانها تركيا المعاصرة، التي أصبحت كما أراد، دولة علمانية غربية الطابع والقوانين والهوى، إذ اختفت مظاهر التدين، وغُيِّرت كتابة حروف اللغة التركية بحروف اللغة العربية، وأُقرت الكتابة فقط، بالحروف اللاتينية، تمهيدا لتسهيل التواصل مع الثقافة والأفكار العلمانية الغربية، واعتمد في ذلك على سياسة نظام الحزب الواحد، والذي تم تطبيقه فور وأد نظام دولة الخلافة -الإسلامي- العثماني، وعلى أنقاضه تم إعلان نظام الجمهورية عام 1923م، واستمر حتى عام 1945م، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، حيث تبنت تركيا سياسية التعددية الحزبية لمزيد من الانفتاح على الغرب، الذي لا يقبل بنظام الحزب الواحد. وبعد الحرب العالمية الثانية، وبعد انهيار نظام موسوليني في إيطاليا والنظام النازي في ألمانيا، حاول عصمت إينونو، زعيم الحزب الشعبي، المُطاح به من قبل زعيم الحزب الديمقراطي، عدنان مندريس، في انتخابات سنة 1950م، الإقرار بالتعددية الحزبية، والتي أصبحت الآن تُعدّ من أهم مظاهر الحياة السياسية في الوقت الحاضر، هذه التعددية التي اعتمدها المجتمع التركي سلميا منذ 1945، كانت وسيلتهم الأهم على المستوى الداخلي، للتقرب من المجتمعات الغربية ومن الفكر الليبرالي الغربي، وكانت الغاية الأبلغ على المستوى الخارجي، الاندماج مع هذه المجتمعات الغربية عموما، مما فتح الباب لتركيا لتكون عضوا في حلف شمال الأطلسي منذ سنة 1953م، وفي العديد من الأندية الأوربية، لكن رغبتها في الاندماج مع الجيران الأقرب إليها جغرافيا، من الأسرة المسيحية الأوربية، بقي مُعلقا منذ سنة 1959م، حيث تقدمت بطلب الانضمام للسوق الأوربية المشتركة ..؟؟. وحتى بعدما بلغ حزب العدالة والتنمية التركي الحكم، وجد نفسه يطالب بالدخول والانضمام لدول الاتحاد الأوربي، لكن تهمة الأولغارشية العسكرية تارة، وتهمة عدم ملائمة قوانين تركيا لقوانين الاتحاد الأوربي تارة أخرى، ظلت حاجزا ماديا في الانضمام التركي لأوربا، وبقيت إلى اليوم حيث تبدو الفجوة أكبر، والأوضاع تغيرت على الأرض أكثر، وأصبحت المستجدات تندر –ربما- بصراع –بارد- وليس بتقارب مُبدد للصراع...؟؟. هذا الصراع الذي فرضته المستجدات على الأرض، منها أولا، التقدم الاقتصادي البيّن الذي حققته تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسه قيادة جماعة أردوغان وتحالفاتها مع جماعة "غولن"، ثانيا، ما أتى به "الربيع العربي"، حيث تصادمت طموحات تركيا مع طموحات قوى إقليمية وغربية كبرى في دول المشرق العربي، إضافة إلى اللهب الذي زاد اشتعالا أكثر، على خاصرة الجبهة الجنوبية التركية من حروب ولاجئين، ناهيك عن أزمة العراق منذ عشرات السنوات وقبلها أزمة الأكراد ومطالب الانفصال، دون أن ننسى المناوشات، تارة المعلنة منها، ما بين النظام التركي والنظام الروسي، أو المخفية ما بين نظام إيران ونظام تركيا، دون أن ننسى أزمة قبرص وأزمة الأرمن، ناهيك مؤخرا عن عدم رضا أصدقاء تركيا الغربيين، بسبب سوء معاملة المُتهمين في انقلاب جويلية 2016 الفاشل، بل واستغلال ذات الانقلاب، كتهمة، للانتقام من كل المعارضين داخليا، وتهديد تركيا "أردوغان" بالعودة عن قانون الإعدام، بإقراره من جديد عبر استفتاء شعبي، وتهديده للخارج أيضا، بالعودة عن اتفاق تركيا مع أوربا، حول منع اللاجئين من عبور حدود تركيا، لإغراق الدول هناك باللاجئين الهاربين من الموت والحروب في أوطانهم... !!. وآخر فصول هذا الصراع غير المسبوق، في مشهد العلاقات التركية – الأوروبية، ما تتبناه تيارات اليمين المتطرف، عبر توظيف قضايا الإرهاب، واللاجئين، والأقليات، والعلاقة مع تركيا، من أجل التصعيد والمزايدة بها، طمعا في ربح الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ومن بين هذه الدول، ألمانيا، وفرنسا، وبلغاريا، والنمسا، وبولونيا، وأخيرا هولنداوألمانيا اللتين منعتا وزراء من الحكومة التركية، للالتقاء والاجتماع بمهاجرين من الجالية التركية المقيمة في هذه البلدان.. !!. فإذا كان التخلف والاستعمار هو من أطاح بدولة الرجل المريض، دولة الخلافة العثمانية في تركيا بداية عشرينيات القرن الماضي، فإنه كان الدافع لتأسيس نظام الجمهورية العلماني ونظام الحزب الواحد، ووأد كل ما له صلّة بالشرق وبمظاهر التدين في المجتمع التركي، ابتداء من سنة 1923م على يد مصطفى كمال أتاتورك، والذي سيمنحه البرلمان التركي، سنة 1928م، لقب أب الأتراك، تقديرا لما عمله من أجل تركيا والشعب التركي (بناء الجيش، الحفاظ على تركيا من التقسيم، إقامة المؤسسات الحديثة).. !!. وإذا كانت نتائج الحرب العالمية الثانية قد أطاحت بنظام الحزب الواحد ودفعت إلى الانفتاح وإقرار ديمقراطية انتخابية تعددية، فإن انهيار صور برلين وسوء تدبير الصراع والمنافسة على الحكم ما بين قادة الانقلابات العسكرية ونخب الأحزاب العلمانية قد فتح المجال أكثر لدخول الإسلام السياسي اللعبة الانتخابية في تركيا مُمثلا بحزب العدالة والتنمية، والذي سيحقق التقدم الاقتصادي المنشود للأتراك. وإذا كان التقدم الاقتصادي قد جعل الشعب التركي يمنح حزب العدالة والتنمية الأغلبية، ويزكيه في الحكم منذ بداية القرن الواحد والعشرين، بل ويقف معه ضد انقلاب جوان 2016م، فإن الواجب الأخلاقي يفترض كبح الميول السلطوية وعدم طلق العنان لمقولة "كلُّ شيء مباحٌ من أجل الظفر بالسلطة، والأسلحةُ جميعُها مشروعة، أنظفُها وأوضعها، إنْ كان لها التيسير على طلاّب السلطة".. !!. لابد من مراعاة القيم الإنسانية في الحكم، والمعايير الديمقراطية، والمساواة والعدالة الاجتماعية وصون الحريات والكرامة الفردية والجماعية وعدم الاستئثار بالغلبة والأكثرية، لتركيز السلطة بيد شخص واحد، بل يبقى اللاتمركز والتشارك والتوافق عبر المؤسسات المنتخبة تعدديا وشعبيا، هو السبيل لتحقيق عدم الاستئثار واعتماد الحكامة والثقة والأمن ما بين كل الفرقاء وجميع المتداخلين في اللعبة السياسية، تيسيرا لتحقيق المزيد من التقدم والتطور، "أليستِ السلطةُ – كالنّفس – أمّارةٌ بالسوء؟!"... !!. للتواصل: E-mail: [email protected]