بقلم: جمال نصرالله يراوح التراث العربي نفسه في أغلب محطاته، بين المعقول تارة، وبين المخبول تارة أخرى؟، فكل تراثنا العربي موزع على إيديولوجيات عدة متضاربة تضارب المذاهب والملل والفرق، لذلك فغالبا ما تجد هذا التراث ممثلا في المؤلفات، وكل ماهو مدوّن، غير متناسين، أوقل واضعين حساب ما أتلف وماهُدر وما أحرق، إما عمدا أو بفعل ظروف وأحداث وحروب… تجد تناقضات صارخة حول نفس الموضوع، ومفاهيم معكوسة تسرد وتعلق على نفس الحوادث؟، ألا تتساءل في قرارة نفسك وسط حيرة تامة هل آخذ بالأولى أم الثانية، ومن هي الأقرب للحقيقة..لهذا وجب تدخل القياس العقلي والتحقيق، شاعرا في قرارة نفسك بأنك محققا سرّيا تحاول الوصول لحقيقة الواقعة والحدث، ثم تتوجه لسماع ورؤية من سبقوك لهذ القضية ومدى حكمهم عليها، بعدها تشعر بأنك خرجت عن سياق الباحث المتابع الذي غالبا ما يكتفي بنقل الأفكار والأراء بحلوها ومرّها، وتتحول هنا من باحث إلى مهمة أصعب من قدراتك…جمهور كبير من العلماء العقلاء قالوا بأن التراث الذي صَلُح للماضي لا يمكنه بأي مبرر أن يصلح للحاضر أو المستقبل، وإنما هو ابن زمانه، لذلك وجب البحث عن نوع من التراث الصالح لكل زمان ومكان.. وآخر يتوافق مع الضرورات فقط ولا يفعل ذلك ويؤثر في الحياة العامة، وأخيرا هناك تراث لا يصلح في زمانه ولا في حاضرنا أو مستقبلنا، إنه تراث اللامنطق واللاعقل، والذي يلزم فئة معينة أو شخص معين لا غير ..تبقى فقط مسألة التمييز والفرز الدقيق لتقصي الحقائق …نعود لنذكر بأنه القصد من التراث هو النصوص والمراجع التي تركها لنا القدماء منذ وفاة النبي الكريم الى يومنا هذا دون تناسي طبعا التراث الأدبي الشعري قبل بزوغ الإسلام. وقد سبق وأن تحدث في هذا الأمر شوقي ضيف وطه حسين، هذا الأخير المشكك في وجود الشعر الجاهلي أصلا، بحجة أنه يخلو من نوعية ديانة ومعتقدات الشعراء، وهذا – حسبه- يدل على أن الشعر الذي بين أيدينا اليوم مفبرك ومتحول، ويمكن بمكان أن تكون بعض الأقلام بعد مضي قرون قد كتبته بشكل يناسب عقائدها وأخلاقها ولم يتم نقله بأمانة، لأنه يحوي بعض العبارات التي تخدش الحياء أو تمس بعقيدة الأمة… فريق آخر يعلق التراث ويربطه بالسنة، وهذا ردا على بعض النخبويين الذي رافعوا من أجل تركه جملة وتفصيلا.. والبحث عن مراجع بديلة تتوافق مع العصر والتطورات، لتأتي بعدها جماعة التوفيقيين ممن طالبوا بعملية التمحيص وإحداث توازنات على خلفية الأخذ بما هو صالح ومتوافق مع حاضرنا ويمكن الإستدلاء به في جميع المراحل..وصحيح كانت لهم الكلمة الأخيرة عكس بعض المتشددين الذين طالبوا بالإبقاء على كل ماجاء في كتب التراث الفكري والفقهي المكتوب دون التنازل عن أشياء والعمل بأشياء، وهنا حدث الاصطدام واختلفت الفرق والجماعات، وكان الرأي الأرجح كما ذكرنا لكفة التوفيقيين الذين استعملوا عمليات الغسل والحذف والصقل، بحجة أن الأمم والشعوب التي لا ماضي لها لا حاضر ولا مستقبل لها، وإلا كيف يمكن التضحية بكل جهود الأسلاف وممن كانوا جهابذة ورموزا بل قدوة لنا جميعا في جميع مناحي الحياة. إن مسألة التعامل مع التراث جد حساسة، وتتطلب جهودا معتبرة، ليس أي كان بمقدوره أن ينخرط في هذا المشروع الضخم، بل هو يتطلب عقولا نيرة تعمل بمراحل تسودها الجدية والدقة وفق خصوصيات ما تتلاءم مع العقلانية والموضوعية بعيدا عن الشعوذة والابتذال الذي يلزم فئة دون أخرى، لهذا وذاك، فالتراث الأنسب هو المطابق لروح العصر مع التسليم بجزء منه يلزم السياقات التاريخية التي جاءت فيه والغلق عليها في المتحف؟ حتى لا تصبح وتصير عقبة وحجر عثرة في تقدمنا وتطورنا… وإلى هنا وجب إعمال العقل كما وردنا وإلا بقيت الأقطار العربية والمسلمة تراوح مكانها في دوامة من المشاكل لا لشيء سوى عدم الضبطية، وترك الأمور على حالها تتحكم في القلوب والعقول.