يضعنا التاريخ السياسي الحالي أمام جملة من التساؤلات حول المكون السياسي الجزائري، منها كرونولوجيا الأحداث وظروف نشأته، فضلا عن الأشكال التعبيرية في النشاط السياسي وعوامل تكوين وصناعة الخطاب السياسي وآليات تشكله، ففي اعتقادي أن السياقات التاريخية للمكون السياسي الجزائري عرفت ثلاث مراحل صنعت فيها الظروف التاريخية أدبيات الخطاب السياسي، نوعيته وجودته من ناحية الوعاء المصطلحاتي والطرح المفاهيمي، أما المكون الشخصي فالبيئة الاجتماعية والعمرانية والمحيط الدولي كانت عوامل محورية في تشكيل مخياله السياسي ولغته. وقد يتفق معي البعض في أن جيل ما بعد الثورة هو الجيل الذهبي سياسيا من حيث الأداء واللغة والإلتزام، فهو جيل وليد وامتداد الحركة الوطنية، وظروف نشأته هي الحالة الكولونيالية والنضال ضد الاستبداد الكولونيالي، ذلك أنه استطاع إبداع جملة من المفاهيم انعكست إيجابا على مستوى الأشكال التعبيرية والسلوكية وتعامله بمستوً راقٍ مع المرحلية التاريخية، فكانت خيارته متعددة اللغة الديبلوماسية، الخيار العسكري والتعابير الفنية والرياضية، فرغم ما نوجهه من عتاب لجيل ما بعد الثورة لا نختلف في مستوى أدائه وأسلوبه. في المقابل، انتجت الأحادية وشمولية الحكم كوادر سياسية أخرى تكونت في بيئة العمل السري وتحت القمع البوليسي ومنظومة حزبية إيديولوجية منغلقة، وضعت قاموسا سياسيا مناقضا ومعاكسا تماما للطبقة الحاكمة السياسية ما بعد الثورة، يوظف كلمات ومفردات جديدة، كحقوق الإنسان، حرية الصحافة، الديمقراطية، التعددية السياسية والهوياتية، التداول على السلطة والعلمانية. بالموازاة، أنتج الإسلام السياسي مجموعة من القيم والمفاهيم على مستوى الطرح السياسي، عبر شعار الإسلام هو الحل، هذا الجيل لم ينقطع تماما عن شخصيات تاريخية اختارات المعارضة غداة الاستقلال كحسين آيت أحمد، محمد بوضياف وعلي يحيى عبد النور، لكن الأزمة الأمنية أرهقت الفاعل السياسي واستنزفت طاقته وغيّبته صوتا وصورة عن المشهد كليا، لتبقى عباءة الأمراء وقبعة العساكر اللغة الرمزية الوحيدة في الميدان، حينها أصبحت السلطة هي محور الأداء وصناعة النخب السياسية بما يتماشى مع رؤيتها ومراحل التأسيس المؤسساتي، فأفرزت الخريطة السياسية أسماء، على غرار عمار غول، عمارة بن يونس، ساحلي، بن حمو والسيدة نعيمة صالحي، فيما شكل ظهور عمار سعيداني وولد عباس حالة جدل استثنائي، الأمر الذي أنتج عروضا كرنفالية كمشروع الجدار الوطني. ويوصف الجيل السياسي ما بعد التسعينات بجيل الوصولية والإنتهازية السياسية والإرتقاء الاجتماعي عبر التوظيف السياسي، فهو مفلس تماما من معايير القيمية والإنتماء إلى المدارس السياسية التقليدية. إضافة إلى ما سبق، شهد المسرح السياسي بروز فئة أخرى من خريجي المدرسة العليا للإدارة، التي بعدما مارست الوظيفية في أجهزة الدولة والحكم، تحولت بعد ذلك إلى النشاط السياسي، إما داخل كيان ما يوصف بالموالاة أو معسكر المعارضة، ورغم التباعد في مستوى الطرح والخطاب إلا أن العامل المشترك هي الرؤية البيروقراطية للعمل السياسي، وهذا ما يتضح جليا في اللغة المستخدمة تجاه الأحداث، ومثال ذلك ممارسة أحمد بن بيتور لفن المعارضة وفق أبجديات النظام التي تربى بداخله، معتمدا في ذلك على اللغة الهيكلية المبهمة في تفكيك السلطة الفعلية أو استخدام الأرقام الاقتصادية في توجيه انتقاده للنظام، في حين يبقى فصيل آخر حبيس التصورات البولشفية من خلال إعادته لخطابات مستهلكة دغمائية، تتشكل من مفردات كالأيادي الخارجية والمؤامرات الكونية وما شابه ذلك. وفِي محصلة الحديث، يمكن القول إن الخطاب الهزلي بات اليوم يحتل صدارة المشهد السياسي بعدما وجد أرضية إعلامية تشتغل على الإثارة والتسطيح، مما أدى إلى قطيعة نهائية مع موروث تاريخي أنتج نخبا وأنتلجنسيا سياسية عملت على الإرتقاء بالعمل السياسي والمؤسساتي إلى مستويات رفيعة.