يكتبها الطاهر سهايلية يفسّر الكثير من الخبراء والمختصين في العلاقات الدولية، سبب فشل الثورات العربية، باستثناء ثورة البوعزيزي، التي شهدت توافقا نسبيا بين النخب التونسية التي بدورها عملت على نجاح تلك الثورة والمرور بها لمرحلة ما يسمى بالانتقال الديمقراطي، أما باقي الانتفاضات فهي في نظر المحللين فشلت نتيجة عدم التوافق وغياب المشاريع ونقص التجربة وضعف المؤسسات الدولة ومحدودية الأفكار والتصورات لدى الحكومات، زيادة على ذلك غليان الشعوب والتعامل بلغة العنف بدل الحوار، إلا أن المؤسف والمحزن في الوقت ذاته أن محللي البلاتوهات لم يتطرقوا بالضبط إلى "جوهر الأزمة"، وإلى من هو المسؤول عن اختطاف "ثورة الشعب" في تلك الفترة منذ ذلك الحين، وما أسفرت عنه تلك الأحداث والمشاهد من الخلل والتردي المخيم على المجتمعات العربية، وهو ما برزت تجلياته في صورة غير مسبوقة عقب الثورات العربية بداية من جانفي 2011، والتي جاءت بقدر غير متوقع من الوعود الكاذبة والمزيفة والأمال المعلقة لدى تلك الجماهير التي راحت ضحية نخب عقيمة وعمياء. لقد كان الاضطراب والدمار والإحباط الذي أعقبها فاتحة لمرحلة جديدة من التساؤلات المنهكة حول مصير الجماهير العربية وحقوقها المشروعة في العدالة والمواطنة وقدرتها على مواجهة أنظمة القمع والفساد وكيفية التصدي لسيطرة مصالح دوائر المال وأباطرة السوق وسطوة الفقهاء التقليديين الغارقين في اجترار التأويلات السلفية للدين.
إن الشعب بعرقه ودمه يصنع المعجزات.. وباسمه ترتكب أكبر الفظاعات كثيرون هم أيضا من يعتقدون بأن سبب المذابح التي عاشها العالم العربي منذ بداية الانتفاضات تعود أسبابها إلى الصراع القائم بين التيار العروبي والتيار الإسلامي. صحيح أن الحروب والصراعات التي تشهدها المنطقة العربية اليوم، وخصوصا الشرق الأوسط، على غرار ما يحدث في سوريا والعراق واليمن بالذات، يعود إلى صراع المذاهب والأديان، فقد اكتشف حينها بعضهم أنهم سنة، فيما تأكد الآخرون من أنهم شيعة، لكن كل هذا لا يهم إنه باعتقاد هذه الشعوب التي بقيت متشبثة بالدين واعتباره الحل في كل شؤونهم، لكن لا يمكن أن نحمل أسباب الدمار الذي حل بالدول العربية، للأديان "الصراع الديني" فقط، لأن جزءا كبيرا من مسؤوليته يعود على عاتق النخب العربية التي سلمت لها الشعوب العربية مفاتيح الثورة، ووضعت ثقتها بغية الحفاظ عليها، والخروج بها إلى بر الأمان بعيدا عن الدماء والعنف والمأسي والفوضى، إلا إنها للأسف خيبت آمال شعوبها، وأثبتت فشلها وسذاجتها في الكثير من المرات، وتواطئها وعمالتها، وفي العديد من المواقف. صحيح إن العروبة تحتاج للإسلام للخروج من شرنقة القومية العنصرية، كذلك الإسلام هو أيضا بحاجة للعروبة للخروج من شرنقة الإيمان الأعمى، وهذا ما سيعيد التوأم العروبة – الإسلام إلى مداره الطبيعي، فقط إذا ما تبادلا الحوار والنقاش. إن الإشكالية الرئيسية في النخب العربية تكمن في إفتقادها لما يسمى "بحس التوقع"، وهذا ما جعلها تتخيل الأحداث والمشاهد، دون استعمال العقل في التفكير والتخطيط والاستشراف بدل التعصب والإصرار والعناد لما سيحدث، مشكلتها الأكبر أنها لا زالت لا تدرك بأن هناك أوطان تخرب وحروب أهلية تترصد في كل بلد وبلدان أخرى دخلت حيز التقسيم، نخب مازالت تتصور أن الثورات لا تحدث دائما إلا من أجل الشعوب، أو تحدثها الشعوب، نخب مازالت تتخيل أن الثورات لا يقع توجيهها مازالت تعتقد أن السيادات الوطنية غير مخترقة، مازالت تصدق بأن الناتو جاء ليقوم بثورات من أجل الشعوب. من المخجل جدا أن نرى النخب العربية لحد الساعة لازالت تتحدث عن ثورات في عهد العولمة بمنهج قديم ومنطق كلاسيكي، وكأنهم مازالوا يعيشون في بداية القرن العشرين. لقد أدرك الجميع شرقا وغربا، بأن النخب العربية كانت نخب غائبة مغيبة في الميدان، وتائهة وعمياء، وغير مؤهلة تاريخيا، ولا تمتلك القدرة على القيادة الأمة والشعوب نحو الأفضل، لأنها لا تمتلك أفكار ومشاريع ولا خارطة طريق واضحة، ولا استراتيجيات في التسيير والتنظيم، سواء تعلق الأمر بمؤسسات الدولة أو الجماهير، فالثورات العربية كشفت الكثير من عورات نخبها المريضة ومصابة بعدة أمراض، من أهمها التعصب الإيديولوجي والعقم السياسي على مستوى العمل داخل الحكومات وماضوية الرؤى والبرامج، فلما علقت تلك الشعوب الثائرة أمالا كبيرة على نخبها ما بعد الثورات وانتظروا من أزهار الربيع أن تنفتح، إلا أن إشكالات النخب حوّلت إنجازات الشعوب إلى دراما عربية وقصص حزينة ومليئة بالعنف والدماء. لقد خانت النخب شعوبها أو بالأحرى خانت قضية الوطن والنهضة، واتضح ذلك خلال انتفاضات العربية، حين تخلت تلك النخب عن دورها كطليعة وكضمير لقوى الشعب في الأغلب الأعم، اختارت في المرحلة الأولى الالتحاق بأنظمة الحكم التسلطي الفاسدة، وباتت في خدمتها طمعا في المغانم التي تأتي منها، وهربا من مشاكل التي تتأتى من معارضتها، وهذا لا ينفى أنه حتى قبل الانتفاضات الشعبية كانت هناك أمثلة رائعة من المثقفين الوطنيين، لكن في أغلب الحالات النخب خانت وظيفتها كضمير وكطليعة، أما بعد الانتفاضات الأخيرة فقد تغير دور هذه النخب، فشهدنا بعض المتسلقين الذين خدموا الأنظمة التسلطية يحاولون تسلق الثورة، قبل أن يتحولوا إلى منافقين يستجدون رضاء السلطة الجديدة، ومن ثمة شرعوا في خيانة جديدة بدلا من أن يحرصوا على حماية الثورة واكتمالها. يمكن القول بأن هناك بعض النخب نجحت في تونس نسبيا لعدم استدعائها للجيش وسيطرة على الساحة السياسية لصالحها، إلا أنها فشلت فشلا ذريعا في كل من مصر وليبيا، وباقي الدول بسبب تدخل الجيش، ربما كانت مطمئنة ومتفائلة من هذه الناحية، لكن يبدو أن هذه التفاؤل وصل بها لحد السذاجة"، إلا أن الواقع مع الأسف أثبت العكس، حيث وجدت هذه النخب في النهاية نفسها أمام أزقة مسدودة، فقط لأنها لم تقرأ التاريخ بعيون مفتوحة، ولم تتعلم من التجارب السابقة "أن النخب الفاشلة هي التي تستدعي الجيوش الجاهلة، كما أن عسكرة السياسة تبدأ عند السياسيين الفاشلين". لقد رأينا وعايشنا الأحداث كما توقعها القليل، أي أولئك الذين يمتلكون حس التوقع، وفاجأت الكثير، أي أولئك الذين مازالوا يستحمون في المياه العكرة، رأيناهم كيف حاولوا إعادة التموضع والانتشار بحسب مقتضيات المرحلة الثورية فركبوا على الأحداث، فمنهم من تملكوا خطابا ثوريا وحاولوا العودة إلى الساحة السياسية من النافذة بعد أن أغلقت أمامهم الأبواب، ومنهم من حاول التأثير على توجهات بعض الأحزاب عن طريق استثمار المال السياسي أو تمويل قوائم الانتخابية، وهذا بطبع سيكون من مهام الرئيسية لرجال المال والأعمال. وعند نهاية الحلقة الأخيرة من اللعبة السياسية القذزة شهدنا أن هذه النخب ظلت تتسول وتحاول بكل ما أوتيت من جهد فقط للحفاظ على امتيازاتها من جهة، ومن جهة أخرى عدم ترك المجال السياسي باعتباره المجال الحيوي الوحيد والملاذ الآمن الذي يغذي بطونهم ويخدم مصالحهم. إنها خيبة أمل وحقيقة علينا أن ندركها ونتقبلها، ولا يجب أن نخفيها أو ننفي حقيقتها، على الأجيال الصاعدة من النخب وبكل أطيافها المثقفة فقط لتجنب هذا السيناريو المرير. لقد اتضحت حقيقة النخب العربية في الانتفاضات الشعبية التي أثبتت لنا بدورها العاجز بأنها لم تكن في مستوى الثورات والانتفاضات التي شهدتها المنطقة العربية، انطلاقا من تونس وليبيا، مرورا بمصر وصولا إلى سوريا والعراق واليمن. لا يمكن لنا – بأي حال من الأحوال– أن نتقدم خطوة واحد نحو الأمام، إذا لم نتعلم من الآخرين ممن سبقونا بالتجارب وبالثورات، وبالعلم والمعرفة، بالتقدم والتطور، بالحضارة والرقي، بالحب والاحترام والأخلاق، باتحاد الأوطان ووحدة الشعوب، كذلك علينا أن لا نكون متفائلين كثيرا، حتى لا نصبح ساذجين، لأن السياسي الذي يظن نفسه أنه أكبر مما هو، فلن يعرف نفسه على الإطلاق، كذلك إن السياسي الذي لا يعرف قدراته جيدا، لا يعرف قدرات بلده جيدا، لذا وجب علينا الكف عن نشر الأكاذيب، وإعادة النظر في الخطابات الدينية والسياسية وقول الحقيقة، لأن قول الحقيقة من شيم الرجال والزعماء، أيضا علينا أن نعترف بالأخطاء، ونعمل على تصحيحها، لأن الاعتراف هو سيد المواقف وهو رجل السياسة، ونقطة الانطلاق، فقط لتجاوز العقبات وصدمات الماضي. وحتى لا يقال أنه تشائم زاد عن حده.. لا بل هو التذمر في حد ذاته، تذمر من الحالة البائسة التي وصلنا إليها، لذلك فإنني لا أعتقد أن رجلا واحد حتى لو كان هرقل سيكون قادرا على تنظيف البيوت السياسة في البلدان العربية، إلا إذا أعادت هذه الطبقة المثقفة النظر أولا في عدة مفاهيم، والتي اعتبرها البعض نهائية أخرى رأتها قطعية، وبالتالي بنيت هذه المفاهيم على تصورات خاطئة، والتي أدت في النهاية إلى نتائج وخيمة ومضللة، وهو ما جعلها تتخبط في رؤى وتصورات أساسية قبل أن تفكر في الإصلاح والبناء. وبالمختصر المفيد، فإن ظلت هذه النخب على شاكلتها البائسة والمتشرذمة فإنها ستقود العالم العربي والإسلامي ليس نحو النهاية.. وإنما نحو مصير مجهول أو كارثي، ولكن شعوبه ونخبه بالدرجة الأولى هي المسؤولة عن هذا المصير. [email protected]