ريفكا شابٌّ جزائري اشتهر من خلال فيديوات ساخرة يشاركها في مواقع التواصل الاجتماعي، تحمل مشاكسات ومغامرات شبابيّة ليس فيها أيّ قيمة ثقافيّة أو تربويّة مهمّة، أقام عيد ميلاده بالعاصمة فتفاجأ بحضور عشرة آلاف شخص، وأصبح بعدها نجما تتداول سيرتَه وسائلُ الاعلام الوطنيّة والدوليّة.. ذكّرني ريفكا بمقال كتبتُه قبل ثلاث سنوات، عنونتُه ب: “عندما ينهزم المتنبي أمام نانسي عجرم”دعوت فيه القارئ أن يتخيّل أنَّ جِهةً ثقافيَّةً ما تُنَظّم عندنا أُمْسِيتَيْن ثقافِيتَيْن، في قاعتَيْن متجاورتَيْن، تستدعي إلى الأولى شاعرا كبيرا بحجم المتنبي، وتستدعي إلى القاعة الثانيّة شخصيةً من عالم الغناء، ولتكن نانسي عجرم، مثلا، وتركت له أن يتصوّر أيّ القاعتين ستحوز جمهورا أكثر.. فعلى الرغم من أن أشعار المتنبي تحمل مضامين هامّة تمثِّل همومَ الإنسان العربي وتَطَلُّعاته، وتحمل كثيرا من القيم الإنسانية الراقية، حتى إنّه أكثر شاعر في العربية أصبحتْ أبياتُه أَمْثِلَةً سائرةً، تتردّدُ على ألسنة الناس، وأصبح ترديدها يُمثِّلُ معادلا موضوعيا لكل خيبات الإنسان العربي وانتصاراته، وآماله وطموحاته.. غير أن نانسي عجرم ستَهْزِمُهُ، وتستقْطِبُ أعدادا مضاعفة من الجماهير إلى حفلها، على الرغم من بساطة مضامين أغانيها، و أنّها لا تُردِّدُ سوى عدد قليل من الكلمات الخاوية من المضامين، فقد تؤدي أغنية تصنع بها الحدث، وتردِّدُها الدنيا كلُّها، على امتداد العالم العربي، وليس فيها سوى جملة واحدة تتكرَّر، مثل: بَحِبّك آهْ، بَحِبّك آهْ، بَحِبّك آهْ!.. وفي سيّاق مشابه،كتبتُ أيضا مقالاً عن سرِّ تأثير الشّاب خالد في الجماهير، الذي جعله يحتل المرتبة السَّابعة من بين مائة شخصيّة،حسب دراسة صدرتْ فبل سنتين، عن مركز بحث سويسري بالتعاون مع مؤسّسات إعلاميّة أمريكيّة هامّة، خاصّة بالقادة العرب الأكثر تأثيرا في الفضاء الإلكتروني، متفوّقا على أحلام مستغانمي التي حلّتْ في المرتبة الرّابعة والأربعين، ومتقدِّما على كثير من المثقّفين العرب أمثال:برهان غليون وعزمي بشارة وراشد الغنوشي وطارق السّويدان وأمين معلوف وغيرهم!..ولا يحتاج الأمر إلى تعليق،فبكلّ تأكيد أنّ الجماهير الحالية ستنتخبُ الشّابّ خالد ليُشَرِّعَ لها في البرلمان ولا تنتخب أحلام مستغانمي المثقَّفَة الكبيرة،التي قالتْ عن الشّاب خالد ذات يوم أنه وصل إلى النّجوميّة بأغنيّة واحدة من حرفين (تقصد دي دي واه!..) إنّ الذي يجب الانتباه إليه، هو أنّ ذائقة الأجيال الجديدة قد تغيّرتْ كثيرا، في غِيَابِ مَنْ يُوَجِّهُ اهتماماتها -بقصد أو بغير قصد-فلا أحد تفوتُه المقارنةبين ذائقة وثقافة أجيال الأمس التي تربّتْ على القراءة،وما تقوم عليه مِن غنىَ فكريّ وعمق انسانيّ وحسّ جماليّ،وبين ثقافة أجيال الانترنت المستمدة من مساهمات خاويّة من المضامين الفكريّة، فهي بمثابة السّاندويتشات السّريعة، لملءِ جوع جيل لم يجد مَنْ يُوَفِّرُ له الوجبات الغنية النّافعة، فراح يُعَوِّضُ عن الهُوِيَّة الفِكْريّة بهُوِيَّةٍ بَصَريّة خاويّة من المضامين، تخضع لكثير من الابتذال والخداع وحسن التعليب، ولا يخفى على أحد أنّ جيلا فقيرا ثقافيّا يسهل استخدامُه والتلاعبُ به، بسبب خوائه الفكري وبساطة اهتماماته..