.. وسكت سيد الكلام فجأة، سكت سلطان الشعر محمود درويش عن جميل القول عن قوة المعنى .. منذ أول أمس ذهب شاعر القضية والنضال والأرض والمبادئ في رحلة لأجل ألا يعود .. برحيله يحزن الشعر وتلبس الثقافة العربية ثوب الحداد على شاعر وهب قلبه وحرفه وقصيدته للإنسانية وللكرامة العربية .. برحيله تظل الكلمة يتيمة .. وتظل القصيدة ناقصة ويظل الفرح منتظرا ،كافح بالقلم و بغصن الزيتون، فكانت في لغته لغات... وصوته أصوات .. اخترق بشعره القريب و البعيد... المؤمن و الكافر المؤيد والرافض المحب و الكاره لقضية العرب وقضية الإنسان ... اخترق بجنونه أنماط التفكير و احتل قاعة الرأس في كتابة نص جديد واقتراح جماليات أخرى. رحل محمود درويش وبرحيله تفقد الساحة الثقافية العربية عملاق شعر آخر، ويسقط صرح ثقافي آخر... جابه مرضه بصبر و شجاعة .. قال قبل موته بقليل و بقلب مفتوح: لا أخشى الموت بل أخشى الشلل بعد أن أخبره أطباؤه باحتمال إصابته به جراء العملية الخطيرة التي خضع لها.. خشي على نفسه من الشلل مثلما خاف على قضيته من الشلل و على شعبه من الوهن .. قرر ذات قصيدة'' ألا يعتذر عما فعل'' و جعل هذه الجملة عنوان استمراره في البحث عن الحقيقة وعن المكان وعن الذات . عند عودته إلى الذاكرة الأولى تطل عليه طفولته العادية في نشأتها الاستثنائية في ميولاتها و أطوارها الشعرية ... منذ المراحل الابتدائية تأثر بجده الذي كان يصطحبه إلى مجالس الأدب منذ الصغر فانتقل فجأة من طفولة ساذجة إلى عالم الكبار وكان ذلك عام 48 . اتخذ المتنبي جده الأكبر شعريا كما فتن بالشاعر العالمي ''يورك الاسباني''. هام بفلسطين ومع ذلك لم يهم بشعرائها ولم يتأثر بهم مثلما تأثر بهؤلاء الذين ساهموا في تكونه واستلهم منهم قوة نصه وتطوير قاموسه الشعري وطرح أسئلته. شخصيته الإبداعية تكونت ذات لحظة تاريخية أي منذ وعى عن ذاك الانقطاع في تاريخ العلاقة بالأرض ومنذ أن صحا الفلسطيني ذات نكبة ليجد نفسه بلا وطن بلا ملك بلا دار بلا سماء بلا تراب .. كان لا يتجاوز ست سنوات حين ضاعت الأرض وتذوق مر الهزيمة منذ نعومة كلماته .. فراح يقرأ ويقرأ بحثا عن طريقة يعوض بها خسائره، كان يريد الانتقال إلى عالم مضاد، ونهل من شعر الفروسية ...كم حلم بتمثل شخصياتها وحلم أيضا بأبطال ألف الليلة و ليلة وشخصيات أخرى تراثية خزن منها الكثير في وعيه و مفرداته.. خاض النشاط السياسي دون أن يفرط في نشاطه الإبداعي ولم يصادف تعارضا في ممارسة كليهما معا لأنهما لازمين في رأيه لبناء مستقبل آخر للإنسان . بالنسبة إليه لا توجد مماحكة بين شخصية السياسي شخصية الشاعر فيه. و لأنه استخدم شعره لعبور أصقاع الإبداع والإنسانية رفض العمل الرسمي السياسي دون أن يتخلى عن نشاطه النضالي ، و أفنى لحظاته في نحت جسد الحياة والإنطلاق والحرية ....كأنه يصل بين الإنسان والأرض ...كأنه يغرس أغصان الزيتون حيثما حل''...كأنه ينبش بكلماته تراب الأرض و يسقيه بالمعاني الكبار ....كأنه يكلم الأشياء و يتكلم عنها حتى تكون و تبقى... لا يمكننا أن نفكر في محمود درويش و لا نهتز لتلك الكلمات الخالدات ...منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصبة زيتون وعلى كتفي نعشي .... لا يمكننا أن نفكر في درويش من دون أن نهيم بتلك اللغة المعبقة ، بتلك الكثافة العشقية للمكان، و للحرية و الكرامة. وهاهي الأجيال جيل وراء جيل تحفظ شعره، تغني كلماته، تلتقط ذراعه التي سقطت لتضرب بها عدوها وعدوك و عدوه لا مفر ... سنبقى دائما بحاجة إلى إعادة فهمه إلى إعادة قراءته إلى إعادة حبه ...هو الذي أمد الأشياء بهويات أخرى وأحدث توسيعات في المفاهيم والمسلمات و حرض الآلة الذهنية على التجديد وعلى بناء ذات مكتملة الحالات والاختلافات ... همه اللغوي و انشغاله النضالي جعلاه لا يلقي بالا إلى زخرف العبارة و لا كيف يبدو رسميا في ألفاظه و كتاباته ...كان يخوض تجربته الابداعية بتلقائية مصممة على تجاوز ما فات و تفكيك ما كان معقدا و فتح ما كان منغلقا... ولا يملك الشعر إلا أن يبكي غياب هذه القامة الشعرية الإبداعية الباسقة، قامة لامست عنان السماء لها تصورها الخاص للحقيقة وللهزيمة و للخسارة و للنصر وللنضال وللحب وللجمال ... برحيله رحلت المعاني و انتكست الكلمات و صار الشعر يتيما.