رحيل سيد الكلمة ورمز القضية محمود درويش كان له وقع خاص اهتزت له الأوساط الثقافية على المستوى العربي والوطني ، فراحت تعزي نفسها في مبدع يعز على الرثاء . وفجأة انطفأت منارة شعرية طالما أضاءت العتمات ، وأنارت الدروب بكلمات أكبر من الكلمات، ومعاني أقوى من المعاني، غادرنا محمود درويش عزيز المقام، رفيع الهمة ولم يغادر الوجدان العربي ذهب ليسكن مجددا في نبض القضية العربية ويقيم في الذاكرة الجممالية والنضالية فارسا أبديا. الدكتور عبد المالك ڤرين: الفكر الدرويشي لابد وأن يدرج في المناهج الدراسية اللغة في حداد.. والشعر في حداد... والإنسانية في حداد.. لأن الرجل لم يكن مجرد شاعر، كان قمة وقامة في التميز والاستثناء ما خوله أن يكون مدرسة قائمة بذاتها.. مدرسة لها فنياتها وخصوصياتها.. لقد كان أكبر وأكثر من إضافة في مسار الشعر العربي.. هو الذي فجر اللغة واستطاع أن يعطي لها الكثير من الدلالات والظلال التي لم تكن معروفة من قبل... هو الذي تجاوز العادي وكسر المألوف، وجعل للكلمات روحا وللمعاني وهجا.. هو الذي لقن النقاد ما لم يكونوا يعرفونه، وعلمهم أن العربية أم الشعر وأبوه أيضا، وكلماتها عين الشعر وقلبه وسحره... هو الذي خرج للشعر بوجه جديد ولغة أخرى فتجاوز بنبوغه كل الطابوهات وأثبت عبقرية اللغة العربية وبرهن على أن الصورة الشعرية ابتعدت كل البعد عن التقليد تعامل مع المتناقضات بمهارة فريدة وصنع منها صورا من الإدهاش والعجب فكانت الألوان غير الألوان والبيان غير البيان.. أبى إلا أن يتلبس قضيته فأصبحها وعاشها وتنفسها وقالها... ارتباطه بها لم يكن عاديا.. ناضل حتى أعطاها بعدها الإنساني ليجعل أي قارئ يتعاطف معها.. هذه القواسم الانسانية التي ينبض بها شعره، وهذه الروح النضالية التي تشع بها كلماته، تؤكد عبقريته في التعامل مع تفاصيل وجزئيات قضيته، كل ذلك جعل للغة حكاية أخرى مع شاعر ليس كالشعراء، ترك إيحاء ورمزية متفردة في اللغة... حرر لها الفضاءات لتأخذ أبعادا لا تنتهي، فجاء المرموز ليس كبقية المراميز. لا أحد قبل درويش توصل إلى ملامسة تلك الأبعاد السحيقة لتشكيل الصور وخلق المعاني، ولا حتى السياب ولا غيره... الشعر مفجوع بفقدان محمود درويش.. لا يعرف العرب ماذا فقدوا بفقدانه.. لو يعلمون أنهم فقدوا جزءا من كيانهم.. من الأمثلة القليلة التي بقيت تحتضن القضية العربية بطريقة خاصة نادرة في زمن الزحف الثقافي (العولمة) الذي يعمل على تغريب اللسان وتخريب الهوية والخصوصية واللغة والأدب كلغة مخصوصة.... رحيل هكذا قمة إبداعية إنسانية وشعرية أعده خسارة كبرى لا تعوض، وبهذا المصاب يجب أن نعزي أنفسنا، وخير عزاء أن نجعل شعر درويش محل دراسة وتدريس من خلال تنظيم ملتقيات دورية، لابد أن يلقن شعره للأجيال ويدرج ضمن المقررات والمناهج المدرسية حتى يزهر هذا الفكر الدرويشي النير في عقول الأجيال ويستمر في وجدان كل العرب. عبد الرزاق بوكبة: هل بإمكان العرب اليوم إنجاب درويش آخر؟ دعوا الرجل يموت بسلام يا معشر الصحفيين، فعله بكتاباته وحضوره بتجلياته المسجلة على صفحات تاريخ الإنسانية قد عمل وأحسن صنعا أعمالا لم تقدر على صنعها جامعة الدول العربية ذاتها... دعوه يواصل طريقه في رحلة الوجود، لقد وصل إلى رحلة لا يهمنا فيها ذهابه أو بقاؤه بقدر ما يهمنا أن نعيد اكتشاف كتاباته كشاعر كبير على غرار شعراء عرب كبار، وأغتنم هذه الفرصة لأسأل ببراءة لماذا كلما رحلت قامة من قاماتنا تداعينا إلى إجراء إجراءات حولها والحديث عنها، وقد كنا قادرين أن نعمل ذلك من قبل ؟ هل أصبح الموت عندنا نحن العرب هو العامل الوحيد الذي يستفز الذاكرة عندنا، أليس مؤلما أن ترتبط الذاكرة عندنا بالموت، نقرأ في الظروف التي مات فيها الرجل في 2008 ألا نقدر أن نقرأ الملابسات التي ولد فيها، وأصبح شاعرا كبيرا ،بمعنى كيف استطاع العرب أن ينجبوا عملاقا مثله في ظروف قاسية، كانوا يعانون منها، هل عرفنا شيئا عن ولادته، وهل العرب اليوم قادرون في وقتنا الراهن على إنجاب من سيخلف تلك الهامة الشعرية التي لا تضاهى، في خضم الحياة الحالية. الأديب إبراهيم سعدي:لم يكن درويش شاعرا نخبويا إنما نزل بشعره إلى الجماهير الشعبية إن رحيل الشاعر الفلسطيني والعربي والعالمي محمود درويش عن هذا الكون خسارة تتكبدها الساحة الثقافية والشعرية العربية... فرحيل هذه القامة الشعرية أحدث شغورا فادحا، خصوصا أن خبر ذهابه لأجل لا عودة، كان غير متوقع ولم يخطر على بال أحد فراقه، درويش مثله مثل الشعراء الكبار يؤسسون يوميات حياتنا، تقريبا له حضور يومي في حياتنا، فهو يمثل مشهدا دائما، فراقه صنع فاجعة وصدمة، ليس فقط على مستوى الفعل الثقافي، بل امتد إلى ذواتنا وأصبح جزءا من كياننا الشخصي، ونحن نودعه كأننا نودع عضوا من عائلتنا، بالنسبة إلي يصعب إنجاب من سيخلفه، فهو الشاعر الذي استطاع أن يجمع بين قوة الكلمة وبساطة المعنى، حيث بلغ شعره مبلغ صدق وحفظه المتعلم والبسيط، تميز شعره بدلالات قوية وأسلوب راق ذي أبعاد إنسانية لا حدود لها، من فكرة بسيطة استطاع أن يؤسس وينتج شعرا جماهيريا يفهم من طرف الجميع، ويكون بذلك قد أثبت بطلان المقولة التي تؤكد أن الشاعر الحق هو الذي يتميز بالغموض، لم يكن درويش شاعرا نخبويا مما أكسبه شعبية مهولة، فقد أنزل شعره من برجه العاجي ونزل به إلى القاعدة الشعبية دون أن يخدشه أو أن يحط من قيمته، بل حافظ على سمو شعره، وعرف كيف يبقي على خصوصيات قصائده، هنا تكمن عبقرية هذا الشاعر الذي عاش وفيا لوطنه الأم فلسطين ولأمته العربية قاطبة، فضلا عن هذا فقد حول القضية الفلسطينية إلى قضية عالمية، وأعطى للشعر مكانته اللائقة به، واستطاع الارتقاء بالقضية شعريا إلى قضية سياسية. عز الدين جلاوجي: درويش نخلة شعرية رأسها في السماء وجذورها ضاربة في الأرض تؤتي أكلها كل حين محمود درويش قامة شعرية كبيرة أعطى للعربية ولشعرها زخما عظيما برهن به للعالم أجمع أن العربية بخير، مادامت قادرة عن التعبير عن أسمى مشاعر الإنسان وعواطفه، وأن العرب كانوا ومازالوا ينتجون الخير والجمال والحب. محمود درويش نخلة شعرية رأسها في السماء وجذورها ضاربة في الأرض تؤتي أكلها كل حين، أثبت بشعره أن شعبه الفلسطيني بخير، وأنه فعلا شعب الجبارين، كما وصف في القرآن الكريم، مادام لا يحسن تقديم الدم فحسب، بل يرمي على الناس الورود أيضا، لا يقدم التضحيات فقط بل قادر على أن يقاوم بالكلمة السامية الجميلة، وهو درب الأنبياء والرسل.. التفاف الناس حول موت درويش، ليجعلوا منه حزنا سعيدا ودموعا مبتسمة، يؤكد أيضا أن العرب بخير ماداموا يحزنون لغياب الكلمة عنهم ويفرحون لإشراق الشعر بين ربوعهم.. حقا سكوت درويش عنا، وتوقف درويش عن البوح يحزننا كثيرا ويحز في نفوسنا، وعزاؤنا أن هناك في العالم العربي قامات أخرى بحجم درويش ومكانة درويش ستستمر في الإنشاد لتزرع في أعماقنا الفرح والحب والخير والإصرار على الحياة.. استطاع محمود درويش أن يؤسس لمدرسة شعرية لها خصوصيتها وتميزها على مستوى اللغة والصورة والإيقاع، وكما انطلق هو من تجارب سبقته وتأثر بها ليبني عالمه الشعري، لا شك أنه سيتحول -بل لقد حقق ذلك في حياته- إلى منارة يهتدي بها شعراء العرب في التأسيس لتوجهاتهم الشعرية. كل ما أثير حول وفاة درويش في العالم كله ينبهنا إلى قيمة الشعر في زمن الفضاء، وأن التقدم المادي للإنسان لا يلغي التقدم الفني والإبداعي، وعلينا أن نعتني بهم جميعا لنرتقي بالإنسان في روحه وأحاسيسه أيضا. سلام محمود درويش حين ولدت وحين أنشدت وحين تألقت وحين مت وحين ستبقى خالدا في قلوبنا وذاكرتنا، ستبقى قصائدك باقات للورد وعبقا منعشا وبندقية مقاتلة.