استفاق المجتمع الجزائري، في الآونة الأخيرة، على مشكلة هروب فتيات أو اختفائهن من منازل أسرهن، مشكلة شبهها الكثيرون بالقنبلة الموقوتة التي تهدد كيان الأسر واستقرارها، ناهيك عن سمعتها حتى وإن تضاربت الوقائع فيها ما بين الهروب والاختطاف، إذ ومهما كانت حقيقة الأمر فهي سيان لأن اختفاء الفتيات في أعمار معينة تتراوح بين الخامسة عشرة والعشرين، واقع مؤلم على الأسر وسط مجتمع لا يرحم الأسر ولا الضحايا. ورغم أن حالات هروب الفتيات من المنزل غير متفشية بدرجة كبيرة، إلا أنها مشكلة تستوجب الوقوف حيالها، ودق ناقوس الخطر، لأنها تنذر بكارثة أخلاقية، وانتكاسة أسرية تحتاج إلى وقفات طويلة لمعرفة الأسباب المؤدية إليها، والنتائج المترتبة عنها والتي استطلعناها من خلال مواقف المواطنين الجزائريين وعلماء النفس والاجتماع. إذا كان مجتمعنا الجزائري لايزال مصدوما ومذهولا إزاء هكذا مشكلة، فإن وتيرة الانتشار تسارعت في الآونة الأخيرة. وحسب الحالات التي كنا نسمع عنها تقريب يوميا، أن الظاهرة ارتفعت أكثر لدى العائلات المحافظة بالولايات الداخلية والوسط، تزايد ملحوظ لفتيات اختفين في ظروف غامضة، وهو عدد يقل بكثير عما يمكن التكهن به، في حالات اختفاء مماثلة لم ترصدها السجلات الأمنية، نتيجة إحجام أولياء الأمور عن تقديم بلاغات رسمية لأسباب ترجع إلى ''العيب الاجتماعي''، شبح يهدد البيوت المستقرة، ويشتت شملها ويجلب لها العار والحزن، ومن الصعب نسيانه. بطل هذا المشهد هو أحد أفراد الأسرة؛ فمن الصعب على بعض الآباء العودة إلى منازلهم وهم مرتاحو البال، وذلك خوفًا من هروب إحدى الفتيات، فهي ظاهرة أبكت العيون وأدمت لها القلب وأحرقته، ما الذي يصل بالفتاة إلى رمي نفسها في التهلكة والمحطة المتأخرة في كل شيء؟ أسباب هذه الظاهرة كثيرة وإن كانت في معظمها تنبع من الأسرة ونمط التربية السائد فيها، يمكن حصر أهم أسباب هروب أو اختفاء الفتيات، حسب آراء كثيرة ومداخلات لعلماء الاجتماع والنفس ومواطنين حول هذا الموضوع، وكل منهم وضع تصوراته حول كيفية سبر غور الهروب، من خلال سردنا لقصص واقعية دون رتوش عن هروب الفتيات، خاصة أن أكثر القصص تؤكد أن العنف الأسري والمشاحنات وانطفاء العواطف الأسرية، وربما التفكك لها دور في إشعال هذه المشكلة. حالات كثيرة ومتعددة لفتيات هربن من منازلهن وكل وحكايتها وضمن مسلسل هروب الفتيات الذي لم ولن ينتهي، هناك عشرات من القصص المروعة والحكايات الأليمة على النفس، التي تكون بطلتها'' الفتاة الهاربة'' والتي تدفع ثمناً باهظاً جراء سوء صنيعها. فالحالة الأولى كانت بدايتها مع '' أمينة''، فتاة قبائلية، عمرها واحد وعشرون عاما ، انفصل والدها عن أمها بالطلاق، وتزوج كل منهما بآخر، فلم تجد في بيت والدها إلا القسوة من زوجته، فانقطعت عنه، ولجأت إلى بيت والدتها، فلم تجد من زوج أمها إلا الوجه المتهجم، فابتعدت عنه، وعندما لم تعد تجد مأوى. حاولت البحث عن عمل شريف ومكان يحميها، لكنها فشلت، فهربت مع رجل ادعى أنه يحبها، وعرض عليها الزواج منه عرفياً فوافقت لأنه لم يكن هناك أمامها حل سوى ذلك، وبعد عدة أشهر تخلى هو الآخر عنها وتركها تصارع من جديد . وقصة ''سارة '' هي غير قصة'' أمينة''، حيث روت لنا أنها لما فتحت عينيها في أسرتها، وجدت نفسها مع عدد من البنات، وفي سنوات المراهقة وجدت أن كل واحدة من أخواتها لها عالمها الخاص ولا أحد يسأل عن الآخر وعن مشاكله، فيما كان الأب غارقا في مشاكل توفير لقمة العيش. وقالت إنه ''في إحدى الأمسيات، بينما كنت عند إحدى صديقاتي اكتشفت عالما آخر، عالم صديقتي مليء بالمكالمات الهاتفية ولأنني كنت أعيش فراغا، دفعني الفضول للحديث مع أحد الشباب الذين تعرفهم صديقتي، فانجرفت في المحادثات الرومانسية، وبعدها اكتشفت والدتي حقيقة ذلك، وأبلغت والدي فحاول إفادتي بالدروس التربوية، ولكنني كنت طائشة مما دفعه لضربي، فهربت من منزلي العائلي، وأقمت عند صديقي، حتى تم اكتشاف أمري. و''آمال'' فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، هربت من منزل أهلها إلى أقاربها، لأنها لا تحتمل العيش مع أسرتها التي تصفها بالمتشددة جداً، فلا خروج من المنزل ولا سماح لها بزيارة صديقاتها، أو الخروج إلى الأسواق والمنتزهات بمفردها وركوبها مع السائق، كما أنها معترضة على عدم وجود القنوات الفضائية بالمنزل، وهو من أساب هروبها. أما ''لمياء'' فتاة عمرها تسع عشرة سنة، طالبة جامعية، هي الأخرى هربت من المنزل لأن أهلها يودون تزويجها من رجل لا ترغبه، وهي تخشى مصارحة والدها لأنه قاس جداً، كما أنها تعرضت إلى العقاب البدني واللفظي لما رفضت، ووالدتها تبرر وترى أن ذلك في مصلحتها، ونظرا لقهر والدها ما كان عليها سوى الهروب من المنزل ومكوثها عند إحدى صديقاتها. ...للمواطنين آراء مختلفة حول هذه الظاهرة الدخيلة وللتعمق أكثر جمعنا بعض الأراء لمواطنين جزائريين حول هذه الظاهرة التي باتت هاجسا يؤرق الأسرة الجزائرية التي تكون ضحية هروب ابنتها، باعتبارها ظاهرة دخيلة على مجتمعنا. ففي هذا الشأن أعطت لنا السيدة خديجة من بلدية عين البنيان، أستاذة بالثانوية، رأيها قائلة إن هروب الفتيات المراهقات من بيوتهن ما هو إلا تحقيق لذواتهن، مشيرة في حديثها لنا إلى أن معظم الفتيات الهاربات اللواتي سمعنا عنهن ينتمين إلى الطبقة الفقيرة، حيث إن عدم إشباع متطلبات الحياة الضرورية، وارتفاع عدد أفراد الأسرة وضيق السكن، يؤدي إلى هروب المراهقات خاصة اللاتي يحلمن بالثراء والعيش الكريم.في حين اعتبرت الآنسة صبرينة، وهي طالبة جامعية بجامعة باب الزوار، أن العامل الثقافي له دور في ارتفاع نسبة الأمية بين النساء، حيث لا يتوفر مجال صحي للتربية السليمة للفتاة، حتى وانه ولا يعلمها كيفية الاحتكاك والتعامل مع مشكلات المجتمع، مما يجعل تفكيرها ضيقا ومحصورا، فتقع فريسة للمغريات. وصديقات السوء هن أول طريق للانحراف، الفتاة في سن المراهقة تتأثر بصديقاتها أشد من تأثرها بوالديها، وحتى الوسائل المتعددة التي اقتحمت كل البيوت والعقول، هي الأخرى خربت النسيج الاجتماعي وحرضت على الاستقلالية.ومن جهة أخرى أشارت السيدة أمال إلى أن انعدام التوافق بين الزوجين، والجو المشحون بالمشادات والصراعات، يؤثر بشكل مباشر في نفسية الأبناء وتربيتهم، وإن كان الطلاق تصبح الفتاة ضائعة بين الطرفين، وفي غياب الأب يفرض الأخوة الذكور سيطرتهم عليها، وهو سبب رئيسي لهذه الظاهرة. الأخصائية النفسانية مشتاوي فاطمة الزهراء المراهقة بحاجة إلى الإشباع العاطفي ورعاية الوالدين ولتبادل وجهات النظر والآراء في خضم هذه الأحداث؛ ونظرا للتزايد المستمر في نسبة الهروب، أشارت الأخصائية النفسانية السيدة مشتاوي فاطمة الزهراء إلى أن هناك عددا من الأسباب التي تدفع الفتاة المراهقة للهروب من المنزل، أولها انعدام التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، وبين الأسرة والفتاة، وذلك بسبب المشاكل الأسرية، أيضاً التربية الخاطئة التي ينتهجها كلا الوالدين أو أحدهما، كالاعتداء اللفظي بكثرة التوبيخ أو البدني بالضرب أو الجنسي، ويندرج تحت مفهوم التربية والاعتدال، موضحة أنه في التربية يجب عدم التفرقة بين الأبناء، وإشباعهم عاطفيا ورعايتهم والاعتدال في ذلك، دون إفراط أو تفريط. فالمراهقات بشكل عام يحتجن في هذه المرحلة العمرية إلى إشباع تام في هذه الجوانب من قبل الوالدين، وتجنب مصادر الاستفزازات التي تحاصر الأفراد وتدفعهم إلى الغضب والإقدام على العنف، وعدم المحافظة على البناء الاجتماعي والعلاقات داخل الأسرة، ويعود هذا التحول إلى رياح التغريب.وأضافت الأخصائية أن مشكلة هروب الفتيات في معدل متزايد، فمن واقع عملها في مجال المعالجة والاستشارات النفسية تلتقي بخمس حالات أسبوعياً، مما يدفع إلى ضرورة المبادرة الأسرية، إلى احتواء الأبناء المراهقين وفهم طبيعتهم، والتواصل الإيجابي والإرشاد بطريقة غير مباشرة، وعدم التفرقة بين الأبناء وإعطائهم الإشباع العاطفي والرعاية والاعتدال، في أساليب التربية دون إفراط أو تفريط، وعدم تزويج الفتاة رغماً عنها، وإذا كان الوالدان أصدقاء لأبنائهم وبناتهم الحد من تأثير الأصدقاء عليهم. أستاذ علم الاجتماع عبد الآوي حسين التفكك الأسري، غياب دور المرشد، صديقات السوء، المسلسلات الخيالية أسباب هروب الفتاة المراهقة قال عبد الآوي حسين، أستاذ علم الاجتماع بجامعة بوزريعة، هروب الفتاة يمثل صرخة جريئة تعبر عن الأسرة والمجتمع، فهروب الفتاة يشكل هروبا اجتماعيا بصورته الواسعة، وظاهرة الهروب في مرحلة الشباب تتميز بالاندفاع والحيوية والطموح ورفض القيود. من أسباب الهروب الفتيات في سن المراهقة هو وجود بعض المشاكل الأسرية، أو الضغوط النفسية أو المشاكل الزوجية، فالسبب الأول والأخير يرجع للبيئة الأسرية والتربية الخاطئة. فالفتاة تعيش حياة حالمة إلى أن تصطدم بالمجتمع البعيد كل البعد عما تحلم به، وعندها إما أن تتراجع إلى الخلف وتعيش في عزلة وانغلاق على ذاتها، أو أنها تتجاوز هذه الأمور فتنجرف بأشكال مختلفة من الهروب، منها الهروب النفسي، ويظهر عندما تكون العلاقة بينها وبين أسرتها، غير متوافقة لأسباب كثيرة منها، تدني الوعي والمستوى التعليمي لدى الأسرة، سيادة التفكير القائل إن الفتاة لها دور معين لا يجوز تجاوزه، إذ تؤهل لتكون امرأة مطيعة فقط، وهذا ما يدفع الفتاة إلى حالة من الاغتراب أو الاستلاب النفسي، في حين تأتي وسائل الإعلام لتكشف واقع مجتمعات أخرى تقوم فيها الفتاة بأدوار مختلفة، سواء كانت إيجابية أم سلبية، وهنا يدفع بالفتاة إلى التمرد. وأشار محدثنا إلى أن مسلسل هروب الفتيات من المنازل على أنها ظاهرة، وعدوها حالات شاذة تحصل من بعض الفتيات اللائي تعرضن لنوع من العنف الأسري،أ و عشن في ظروف كونت لديهن فكرة الهرب مع علمهن أنهن قد يتعرضن للأيدي العابثة التي قد تغتال براءتهن، مفسرا أن تعدد الأسباب المحرضة على الهرب، منها التفكك الأسري الذي تعيشه بعض الأسر، وغياب دور المرشد سواء داخل المدرسة أو خارجها، وصديقات السوء. كما أنا لوسائل التقنية الحديثة دورا كبيرا، في تكوين فكرة الهرب لدى الفتيات، من خلال المسلسلات التلفزيونية الخيالية التي تصور الهرب على أنه أمر طبيعي للتحرر من سلطة المنزل. ف. ن