جميل أن نتحدث بلغة المعاني الراقية والنبيلة أو نسمعها، وأجمل من ذلك أن نقرأ هذه المعاني بعد أن تخطها أنامل طفولتنا البريئة. لقد طُلب من أطفالنا المقبلين على امتحان نهاية التعليم الابتدائي، في إحدى الدورات السابقة، أن يحرروا موضوعا حول المصالحة والإصلاح بين المتخاصمين في أبسط صورة ممكنة، وبما أني كنت في لجنة تصحيح مادة اللغة العربية فقد سررت كثيرا لما قرأته من معانٍ جميلة جادت بها قرائح أطفالنا، وعلى الرغم من تعثر كلماتهم وتواضع خطهم فإن ما زاد هذه المعاني رونقا وجمالا تلك المسحة من العفوية والتلقائية البعيدة عن النفاق والمزايدة المتكلفة، وبعد قيامي بتصحيح أكثر من 300 ورقة خرجت بالانطباعات الآتية: 1 معظم التلاميذ عبروا بأقلامهم على أن الصلح خير، وهم لا يحفظون الآية التي تنص على هذا المعنى، وهذا يعني أن الصلح والتصالح مغروز في الفطر السليمة وما التناحر والخصومة الا طارئ تمليه ظروف معينة عندما تخرج النفوس عن حدود الفطرة التي جبلت عليها. 2 معظم التلاميذ كتبوا أن المصالحة تؤدي إلى التطور والرقي، وأننا لا نجني من الخصومة إلا الشر والبوار. 3 الكثير منهم قال إنه سعد أيما سعادة بعدما قام بالاصلاح بين صديقيه، لأن الموضوع كان محددا بهذه القضية. وبعد كل هذا فإن ما زادني على السرور إعجابا ودهشة، ذلك المقترح الذي تقدم به السناتور تلميذ والقاضي بتخصيص يوم عالمي وهو حتما يقصد وطنيا للمصالحة، وهو الأمر الذي دفعني إلى كتابة هذه السطور لنقل هذا المقترح إلى السيد رئيس الجمهورية خاصة، عبر جريدة ''الحوار'' الغراء، وذلك حتى نتيقن جميعا أن الخير مازال موجودا في هذه الأمة، وأن ظلام الحقد والبغضاء قد لجلج، لأن صبح المصالحة والحب قد أبلج، وأن الخير فينا أصل أصيل وما تلك الصفحة السوداء في حياتنا ألا طارئ دخيل. وكأني بهذ التلميذ يريد أن يقول لنا بأن حاجتنا إلى تذكر المصالحة، كحاجتنا إلى الطعام والشراب، فكما أن هذا الأخير يعطينا الطاقة الدافعة إلى الحركة والعمل كلما أحسسنا بالوهن والضعف، فكذلك تذكر المصالحة وتشربها يعطينا المناعة الواقية من الأمراض التي تفتك بوحدة الأمة وقوتها. إن المصالحة التي تحدث عنها هذا التلميذ معناها نابع من فطرته الصافية وبراءته العفوية، وهذا ما يجعلها أقرب إلى المعنى الرباني الوارد في القرآن الكريم. وبعد: إذا ما أخذ هذا المقترح بعين الاعتبار، وأريد له أن يؤتي ثماره الطيبة، فإنه ينبغي أن يشفع بالملاحظات الآتية: 1أن لا يكون «اليوم الوطني للمصالحة» يوم عطلة مدفوعة الأجر لأن ذلك سيفرغه من محتواه، وأعتقد أن قصدي واضح. 2 ينبغي تفعيل المصالحة بالمصارحة بتعبير أحد الأساتذة الباحثين وذلك حتى نستطيع القضاء على كل أسباب المرض ولا تصبح هذه المصالحة من قبيل: «القانون فوق الجميع، والجميع فوق القانون». 3 أن لا تستغل هذه المناسبة لإسقاط التكاليف والادخال القسري للمعاني البعيدة عن المصالحة في باب المصالحة، وهذا يحتاج إلى استراتيجية واضحة يضعها عقلاء هذه الأمة من أهل الاختصاص والصلاح. 4 أن يتم اختيار هذا اليوم من أيام السنة الدراسية، وذلك حتى يتسنى لأكبر شريحة من المتمدرسين تذكر هذا اليوم بأبعاده وفوائده، لأن هذه الطائفة هي معقد الأمل والمستقبل لهذه الأمة، وتذكيرها بهذا الخير كفيل بأن يحميها من ضده. وأخيرا فإن تخصيص يوم من كل سنة للصلح والمصالحة، كفيل بأن يذكرنا بتلك النعمة الإلهية التي لولا أن تداركنا الله بها لسقطنا في هاوية الزوال والاندحار. ''واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا'' فهلا تذكرنا وذكرنا؟. *أستاذ في قطاع التربية