صدرت مؤخرا عن دار "البرزخ" رواية جديدة باللغة العربية للروائي والمترجم الجزائري محمد ساري تحت عنوان "القلاع المتآكلة" عاد عبرها إلى مآسي سنوات الإرهاب في التسعينيات من خلال سيرة المحامي عبد القادربن صدوق وصديقه رشيد بن غوسة. الرواية التي قدمها محمد ساري في أسلوب بسيط من حيث البنية السردية وجميل من حيث لغته التعبيرية تناول عبر صفحاتها 237 قصة هذا المحامي الأعزب الذي عايش رفقة صديقه رشيد وسكان "عين الكرمة" بعض أبشع الجرائم التي اقترفتها الجماعات الإرهابية في حق المدنيين ورجال الشرطة والعداوات التي خلفتها داخل الأسر. وحاول صاحب النص من خلال عمله هذا الغوص في المسار الذي جعل الجزائر"تتوه" في سنوات الرعب بتقديم تصور لسيرورة الجزائر منذ الإستقلال و"نظرة نقدية" للأفكار السائدة و"العقليات البائدة" ل"هؤلاء و أولئك". يصور الراوي شخصية عبد القادر كرجل ستيني سعيد بعزوبيته التي نجته من مشاكل وأمراض يتخبط فيها كل أصحابه المتزوجين ولكنه أيضا إنسان وطني يشعر بأسى كبير لواقع قريته وبلاده وقد اشتغل في المحاماة بعد أن مل من حياة التدريس في المتوسطة التي لم تحقق له "لا رفاهية العيش ولا كرامته" كما جاء في الرواية. وفي عز الإرهاب الذي مد أطرافه في كل مكان لم ينس عبد القادر حياة العربدة التي كان غارقا فيها رفقة بعض أصدقائه كرشيد وعبد الله رائد الجيش المتقاعد وشعبان مالك المقهى الذي كان الجميع يتجمعون فيه على كؤوس النبيذ يتبادلون حديث السياسة وكلام الجرائد وفوضى الأفكار و الإنحرافات الدينية التي سادت عقول الناس آنذاك. ولكن الحياة التعيسة لرشيد "الأستاذ الشيوعي الملحد" هي التي مثلت صلب هذا العمل الروائي فإبنه نبيل –وهو شاب في مقتبل العمر- صار يكن له عداوة شديدة بسبب الأفكار التي غرسها فيه أصدقاؤه المتطرفون تدريجيا إلى أن "يقنعوه" أن أباه فاجر ويستحق الموت فيطلبون منه قتله مبشرين: "... إنك ستخلص البشرية من كافر زنديق وأجرك عند الله عظيم(...) رمش عين وأنت أصبحت جنديا من جنود الله ومن المبشرين بالجنة (...) ندخلك إلى جماعتنا وتصبح واحدا منا". هذا الأمر يجعل نبيل في صراع داخلي حاد فيصاب بإحباط كبير و يغوص في متاهات الإضطراب النفسي ما يجعل حياته في الأخير تنتهي بمأساة... عاد ساري من خلال هذا العمل إلى أهم الأحداث السياسية في فترة ما بعد الإستقلال مختزلا تاريخ الجزائر في "عين الكرمة" القرية الواقعة في سهل المتيجة التي انكوت بالفقر والفوضى والنزوح الريفي وزادها على هذا "القمع" والتفجيرات وعمليات التقتيل وبشاعة الإعتقالات و الإختطافات. فمن خلال قصص وسير بعض شخوص الرواية الآخرين كالصحافي يوسف عياشي والمحامي ناصر بن تواتي الذي تدرب عبد القادر على يديه ومحافظ الشرطة سي احمد الذي اغتالته جماعة "عين الكرمة" الإرهابية سلط الرواي الضوء على هذه المرحاة منتقدا خصوصا فترة السبعينيات و"صراع عقداء الثورة" الذي "تسبب -حسبه- في موت الكثيرمن الجزائريين الأبرياء". ففي الصفحة 160 من الرواية يكتب ساري على لسان عبد القادر: "... كل عقيد يرى نفيه أجدر من غيره بقيادة الجزائر (...) أسلوبهم الوحيد هوالإنقلاب العسكري وكنا نحن الجنود البسطاء (...) الطعمة المناسبة لفوهات المدافع ...". ويبلغ النص نهايته بقضاء الشرطة على تلك الجماعة الإرهابية التي عاثت فسادا في "عين الكرمة" ولكن ساري أبقى نهايته مفتوحة متسائلا عما إذا كانت "عين الكرمة" ستعود يوما ما لطبيعتها وإنسانيتها أم لا الرواية على تشويقها وأسلوبها التهكمي الساخر أحيانا والعاطفي أحيانا أخرى فيها وصف لأحوال الناس البسيطة في أحيائها الفقيرة ومقاربة للواقع اليومي للجزائريين في التسعينيات وأيضا بانوراما لوضع الجزائر على مر50 سنة من الإستقلال. وجاء النص دراميا بشكل مفرط وقد أقحمت فيه فقرات متعلقة بالجنس يمكن أن تثير استفهام القاريء من حيث عدم اتصالها بالقصة أحيانا إلا أن جرأة الراوي في تناول بعض الأحداث التاريخية تبقى الإنطباع الأول حول هذا العمل الأدبي. كما استعمل ساري الجمل القصيرة أساسا مع تعددية ضميرالمخاطب بينما استعان بالتحليل النفسي والحوار كركيزة أساسيه لعمله .وجاءت الأفكار في الرواية في تسلسل وتشوسق سردي كبير لا يمكن للقاريء من خلالهما إلا أن يلاحظ جمالية الوصف وتمرد المبدع في تعبيره أحيانا عما يجول في خاطره من أفكار و آراء وقناعات. ولد محمد ساري في 1946 وقد نشر روايات عديدة باللغتين العربية والفرنسية من بينها "على جبال الظهرة" (1983) و"الورم" (2002) و"لو لابيرانت" (2000) كما ترجم روايات كثيرة من الفرنسية إلى العربية لروائيين جزائريين على غرارمالك حداد وياسمينة خضرة و مليكة مقدم وغيرهم.