كان سيّدنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يُواجَه من أعدائه بأساليب موغلة في الاستفزاز والأذى، قد تُخرج الإنسان عن طوره، لكنّه مع ذلك كان مثالاً للحلم والصبر. فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ''استأذن رهطٌ من اليهود على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: السام عليك. فقلتُ: بل عليكم السام واللّعنة. فقال: يا عائشة، إنّ الله رفيقٌ يحبّ الرِّفق في الأمر كلِّه. قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: قلتُ وعليكُم''، أخرجه البخاري ومسلم. ولم يكُن حِلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقتصرًا على أعدائه، بل يسع أتباعه من باب أولى، وهم جمهور واسع، وفيهم من العامة والأعراب مَن يكون طبعه الجفاء والغلظة، فيتصرَّف مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما لا يليق، لكنّه كان يحلم ويصبر عمّا يبدر منهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً أتَى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتقاضاه فأغلَظَ، فَهَمَّ به أصحابه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''دعوه فإنّ لصاحب الحق مقالاً. ثمّ قال: أعطوه سنًّا مثل سِنِّه. قالوا: يا رسول الله، إلاّ أمثل من سنه. فقال: أعطوه، فإنّ من خيركم أحسنكم قضاء''، أخرجه البخاري ومسلم. لقد جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموقف بين الحلم والصبر على جفاء الرجل وغلظته، وبين الإحسان، فأعطاه أكثر من حقّه.