كم هو حزين منظر المجلس الشعبي الوطني، المهجور من نواب الشعب، المنصرفين لقضاء مآربهم، والمنشغلين بمصالحهم الشخصية، في وقت تعرض عليهم للنقاش والمصادقة حزمة قوانين الإصلاح، وخاصة مشروع القانون العضوي للإعلام الذي هو بمثابة الدستور الثاني للبلاد، باعتباره ينظم العلاقة بين السلطات التقليدية، والسلطة الرابعة، التي يتعاظم دورها مع الانتقال السريع للعالم إلى عصر الاتصال، والذي يبدو أن الطبقة السياسية في الجزائر لا تشعر به، وتغرق في حسابات مأدبة اللئام، واستشراف الشوافات لمستقبل البلد. كم هو حزين منظر وزير الاتصال وهو يقف أمام كمشة من النواب ليتجاوز عددهم تقريبا عدد أعضاء لجنة الاتصال والثقافة والسياحة، صاحبة الاختصاص في الموضوع، ليرافع عن مشروع قانون لم يتقن معدوه حتى صياغة أحكامه صياغة سليمة، ما أغرق اللجنة المختصة في تعديلات شكلية متعلقة بإعادة صياغة نص مهلهل، لجهل أو لسوء ترجمة، بعد نصف قرن من التجارب في ظل الاستقلال! لقد كان لي شرف مخاطبة أعضاء لجنة الاتصال والثقافة والسياحة في جلسة استماع، لأنني كنت مقتنعا بأن تقديم وجهة نظري أحسن من المقاطعة والصمت، وربما كان الدافع نفسه عند عدد كبير من رجال مهنة الصحافة ونسائها، والدكاترة والأساتذة والباحثين والخبراء المختصين والوزراء السابقين للإعلام وتكنولوجيات الاتصال، الذين استمعت إليهم اللجنة حسب مقررها، لكنني لم ألحظ تغييرا جوهريا في مشروع الحكومة، فشعرت أن هذا العدد المعتبر ممن لبوا دعوة اللجنة اعتبرته أرقاما للتفاخر بها أكثر منه مساهمة في إثراء المشروع، وأن اقتراحاتهم كانت مجرد صيحة في واد. لهذا لم أكن مخطئا لمصارحتهم ''بوقاحة'' أنني من الداعين إلى تأجيل دراسة ومناقشة والمصادقة على هذا القانون، فذلك أفضل بكثير للمهنة والبلد من إصداره قبل انتخابات تشريعية يعد النظام بأنها ستكون شفافة وديمقراطية وغير مزورة، ينبثق عنها برلمان تمثيلي للقوى السياسية الحقيقية، ويتمتع بالشرعية والمصداقية. ولهذا أتوجه هذه المرة إلى فخامة رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، والقاضي الأول، غير طالب لحق أو منصب، بعد أن قضيت 35 سنة في مهنة المتاعب، بل مطالب بحقوق الجيل الذي يضع أقدامه على طريق هذه المهنة الشريفة، التي هي السيف في أيدي شرفاء الأمة يقاتلون به من أجل حرية وكرامة وعزة أبنائها، والترس الذي يرد ضربات أعدائها، ومطالب بحقوق أجيال تريد أن تعلم حقيقة ما يجري في وطنها من وسائل إعلامها قبل أن تعرف ذلك من وسائل إعلام أجنبية، ومطالب بحق شعب في أن يعبر عن رأيه بكل حرية في وسائل إعلام جزائرية، وفي أن يعلم ما يدور في مؤسساته السيادية والاستراتيجية، قبل أن يعلم ما يجري في المجاري والحواري، وما يفعله الشواذ والغواني، وحرمية لقمة العيش، والحرافة إلى فضاءات الحرية. لقد سبق أن قلت لكم يا فخامة الرئيس ''إن الذي يغير جوهر النظام عندنا باتجاه صيانة حقوق وحريات المواطنين، وقيام النظام على أساس أن العدل أساس الملك، والشعب مصدر ومالك السيادة يفوض جزءا منها لمن يشاء ويسحبها متى شاء، فإن أجيالا ستظل تذكره بخير وتدين له بما يتحقق لها من تفتح وتقدم في مختلف المجالات، وقد تقيم له نصبا من الذهب وليس من البرونز فحسب..''. وأقول لكم اليوم إن الصحافيين لن ينسوا لكم فضلا إن أوقفتم مهزلة حسابات الزمر والأحزاب والنواب واللئام التي لا علاقة لها بطموحات الشعب، ولن ينسوا لكم فضلا إن رفضتم هذا المشروع بثقلكم في الغرفة الأولى، أو بثلثكم المعطل في مجلس الأمة، أو أعدتموه إلى قراءة ثانية، ولن ينسوا لكم فضلا إن أحلتموه بعد ذلك إلى أهل المهنة لمناقشته، وإعداد نص تشريعي على أساس اقتراحاتهم، ولن ينسوا لكم فضلا إن تمكنتم من إصدار قانون للإعلام منطلقه أن الحرية هي أساس المجتمعات السوية، وأن هذه الحرية هي التي قدم الشعب الجزائري من أجل أن يتمتع بها سبعة ملايين شهيد جيلا بعد جيل، وأنتم من الجيل الذي قدم مليون ونصف المليون شهيد، وتمكن من انتزاع حريته وحرية واستقلال شعبه. لست أدري يا فخامة الرئيس ما الذي يجعل السلطة التنفيذية التي ترأسونها والسلطة التشريعية التي تزعم تمثيلها للشعب وتعتبر رغباتكم أوامر، ترفض ممارسة سلطة ضبط الصحافة المكتوبة إبداء الرأي في النزاعات المتعلقة بحرية التعبير والتفكير التي تقع بين مديري الأجهزة الإعلامية ومساعديهم قصد التحكيم فيها بالتراضي؟ ولست أدري لماذا ترفض ممارسة سلطة الضبط صلاحيات المصالحة (وأضع خطين تحت كلمة المصالحة) بطلب من المعنيين في حالات النزاع المتعلقة بحرية التعبير، وحق المواطن في الإعلام، وذلك قبل قيام أحد الطرفين المتنازعين بأي إجراء أمام الجهات القضائية المختصة؟ لماذا هذا التناقض عند سلطة تسعى منذ توليكم مقاليد الحكم إلى المصالحة الوطنية، لكنها في المقابل ترفض وبقوة تصالح أهل مهنة المتاعب فيما بينهم، أو بينهم وبين المواطنين قبل الذهاب إلى المحاكم؟ وهذا الأمر ليس فيه مساس لا بالأمن العام ولا بالمصالح العليا للبلد، بل يخفف العبء على المحاكم، ويوفر الوقت والمال على الصحافيين والمواطنين. وما ذكر كان على سبيل المثال لا الحصر، فجل الأحكام سيئة، والمواقف أسوأ! لا يخفى عليكم يا فخامة الرئيس أن العالم بعد عقد واحد لن يكون كما هو عليه الآن، فهو يتشكل بسرعة بما يتناسب مع طموحات وحاجيات الدول المتقدمة والصاعدة، والجزائر لا هي من هؤلاء ولا من أولئك، وإنما هي من أهم البلدان المطروحة في استراتيجية هذه الدول لتكون تحت الوصاية حتى لا أقول الاحتلال، لأنها تمتلك مساحة شاسعة، وثروات طائلة، ولكنها غير قادرة على استغلالها استغلالا عقلانيا بما يفيد شعبها، وتستفيد منه الشعوب الأخرى التي تصنع تقدم العالم ولا تتمتع بالمزايا التي تتوفر عليها الجزائر. فهل ترضى أن يكون الجيل القادم تحت الوصاية وأنت الذي رفع السلاح من أجل حرية أبناء هذا الوطن جيلا بعد جيل؟ لقد قلتم لي يا فخامة الرئيس قبل توليكم مقاليد الحكم ''إن اللعب مغشوش والركبة مايلة''، وحكمكم ما يزال صحيحا، رغم أن من حكموا لخمسة عقود هم من حملوا السلاح لتحرير الجزائر، فهل نسيتم أن الحرية تعني العزة والكرامة، وهي لا تقتل، وإنما مصادرتها هي التي تقتل الأفراد والمجتمعات، والمزيد من الحرية ضمانة أكبر للتفتح والتقدم، والمزيد من مصادرتها تحت أي سبب من الأسباب حتى في ظل الكوارث والحروب، إضافة عوامل أخرى للتخلف والانفجار. قد لا أكون من الأحياء بعد حين، أو بعد حول، أو بعد عقد، فقد تجاوزت العقد السادس من العمر، ولم تعد مهنة المتاعب تهمتي كوظيفة، ولكنني أظل حتى الرمق الأخير مدافعا عنها كوسيلة بناء وتقدم الأوطان، وكرسالة لحرية وترقية المواطنين. اللهم فاشهد أني أمام اللجنة البرلمانية قد تكلمت، وفي الصحافة قد كتبت، وإلى كل من يهمه مستقبل الوطن والمواطن قد بلغت... [email protected]