صار اسمه الشيخ منذ عشرين عاما أو يزيد.. أي بعد أن امتد البياض إلى رأسه، ولم يكن حينها في ملاعب الجزائر مدرّبون ذوو صلعات براقة، إلا إذا استثنينا الراحل مختار عريبي، أو ذوو الشعر الأبيض الوافدين من روسيا أو يوغسلافيا أو رومانيا أو ما جاورها من بلدان في إطار اتفاقيات التعاون الرياضي بين دول المعسكر الاشتراكي والجزائر المستقلة.. وأعني بالشيخ، عبد الحميد كرمالي، أطال الله في عمره، المدرّب الأشهر في الجزائر منذ إحرازه اللّقب الإفريقي الأول للجزائر في العام .1990 ولا يختلف اثنان في أنّ كرمالي هو رجل المهمات القذرة كما يطلق على بعض السياسيين، إذ استطاع أن يعيد للعميد، مولودية الجزائر، شبابه وحيويته في الثمانينيات، حين بلغ (زنير وباشي وبن الشيخ وبلمو ومحيوز..) سنّا لا تسمح باستمرارهم في الملاعب، ولا يوجد مدرب قادر على تحييدهم في تلك الفترة. وهنا يروي لي كرمالي قصة مفادها أنه كان مصمما على تشبيب دم المولودية ولو كلفه ذلك هزيمة وراء أخرى في ملعبها وأمام جمهورها.. ففي مباراة حاسمة كانت المولودية منهزمة، بينما ظل الجمهور يهتف بأسماء لاعبين قدامى مطالبا بإدخالهم، لكن كرمالي كان يقسم ويقول ''والله لن أدخل واحدا منهم ولو كلّفني هزيمة بعشرة أهداف..'' وانهزمت المولودية وثارت ثائرة الجمهور الذي توعّد كرمالي بالويل والثبور وعظائم الأمور.. وقال الشيخ إنني متأكد من أن بعض المتعصبين للمولودية يمكن أن يؤذيني، فبقيت في مكاني داخل الملعب أكثر من ساعة، إلى أن تأكدت من أنه لم يبق في الملعب سوى العسّاس (..) فأسرعت نحو غرفة الملابس وحملت حقيبتي وأسرعت خارجا لأغادر المكان، وإذا بي أمام حوالي عشرة من ''الرؤوس الخشنة'' ذوي عضلات مفتولة وعيون يتطاير منها الشرر.. ولم يكن بوسعي الهروب.. فتقدمت منهم وليس معي غير الحيلة والمكيدة، وقبل أن ينطق أولهم بكلمة، بادرتهم بالقول ''هل رأيتم مدربا يبحث عن هزيمة؟''، قالوا لا، ''وهل تشكّون في كفاءتي؟''، قالوا لا، ''وهل تخشون على المولودية من السقوط؟'' قالوا نعم. قلت لهم ''إذن لنعمل معا حتى لا تسقط، وأنا بحاجة إلى أناس يغارون حقا على المولودية ولا يريدون لها سوى الرفعة والانتصارات.'' فشعر هؤلاء أنهم معنيون أكثر منّي بمستقبل المولودية، وطلبت منهم أن يراقبوا تحركات اللاعبين خارج الملعب، إن كانوا يسهرون أو يلعبون خارج أوقات التدريب.. ثمّ طلبت من هؤلاء ''الرّجلة'' كتابة عناوينهم وأرقام هاتفهم على ورقة، حتى أتصل بهم لأعرف منهم المعلومات المتفق عليها، فراحوا لسذاجتهم يدوّنون كل التفاصيل ظنا منهم أنهم سيصيرون شركاء في عملي.. وودّعتهم على أمل اللقاء بهم بعد خمسة أيام، ونفذتُ بجلدي بفضل هذه الحيلة التي أنجبها الخوف (..)، فالخوف أبو الحيلة والاختراع وليست الحاجة دائما.. وأسرعت نحو أقرب قسم للشرطة، حيث طلبت مقابلة المسؤول الذي بَدل أن يسمع شكوايَ راح يسألني عن أسباب الهزيمة ومصير المولودية، وكأنّه من مناصريها، فقلت في نفسي يبدو أنني وقعت في يد من هو أسوأ من أولئك، فترددت في شرح شكوايَ ثم قلتُ لأفعلها وليحصل ما يحصل، وقلت للضابط لقد تعرضت لتهديد بالقتل في الملعب، فضحك منّي وقال لي وهل تظننا قادرين على معرفة الجاني من بين عشرين أو ثلاثين ألف متفرج، وأضاف قائلا ''لا تملأ رأسك بتهديدات جمهور غاضب لهزيمة فريقه''. لكنني ألححت عليه أن يأخذ الأمور بجدية، فقال لي وهل تعرف اسم الجاني أو شكله، فأخرجت الورقة من جيبي وأنا أقول له ''أسماء الجناة وعناوينهم وأرقام هواتفهم كلها مدونة بأيديهم في هذه الورقة''، ثم شرحت له الأمر بتفاصيله وهو لا يكاد يصدّق، فقام حينذاك بالواجب، إذ تم استدعاء المجموعة لقسم الشرطة واعترفوا بأنهم فعلوا ذلك تحت ضغط الهزيمة والخوف من السقوط، وكانت عقوبتهم أن كلفوا بضبط الأمن والاستقرار في الملعب، وأن أيّ فوضى يتحملون مسؤوليتها.. وأكمل كرمالي موسمه بعيدا عن تحرش المتطرّفين من الشناوة.. سألت كرمالي مرة ارو لي كيف كنت تقضي يومك أيام كنتَ محترفا بنادي ليون الفرنسي، فأجابني ضاحكا، بأنه كان يتسلل في نهاية الأسبوع عبر الحدود الفرنسية إلى مدينة سويسرية صغيرة، غير بعيدة، ويلعب ضمن فريقها باسم مستعار، حيث يتقاضى مبلغا ماليا محترما، تتم مضاعفته كلّما سجل أهدافا، واستمر الوضع على هذه الحال والحيلة لسنوات.. دون أن يتفطن أحد إلى ذلك، ولو كان بلاتر السويسري.. وروى لي مرّة أنّه لمّا فرّ مع فريق جبهة التحرير إلى تونس، بُرمجت لهم مباراة أولى ليتعرّف عليهم الناس، ولكنّهم انتبهوا أنّ عددهم عشرة لاعبين فقط، فاستعانوا بالجمهور ''هل بينكم جزائري يلعب الكرة'' فنزل نصف الملعب إلى الميدان (..) ولكنّهم اختاروا واحدا فقط، ولعبوا أول مباراة ليفوزوا بها.. وسألته مرة عن شعوره وهو يبتعد قليلا قليلا عن الملاعب، فأجابني أعطيت الكرة كل شيء ونلت بها وباسمها كل الألقاب والكؤوس ولم يبق إلا أن أروي للناس حكايتي في كتاب.. وحينها سيعرف الناس أن المدرب لا يختلف عن الضابط الذي يقود جنوده إلى معركة فاصلة، يكون بطلا إذا انتصر وربّما يصيرا خائنا إذا انهزم.. وأنّا جرّبت ذلك مرارا.