فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.. هذه الحقيقة تحوي معادلة تختزل الكثير، لكنها للأسف لا تنطبق على واقع هذه الأرض التي نطأها بأقدامنا. فالقاعدة تقول إن قطع الأرزاق من قطع الأعناق وأن العدل أساس الملك، ولكن حينما ينقلب سلم القيم فإننا نجعل أي زائر لهذه الأرض يشعر بأنه فاقد للأمن والأمان، وأن الحقوق ليست مصانة بالقدر الذي يضمن العيش الكريم للجميع، بل إن العيش الرغيد مضمون للبعض ومتاح للقلة فحسب. والمفارقة العجيبة أنه مع اقتراب أي موعد انتخابي يكثر الكلام المعسول، ويحاول البعض أن يقنع المواطن بأن الأمور ستتغير بعصا سحرية بمجرد إدخال ورقة في صندوق شفاف، في وقت بات السواد الأعظم من الناس مقتنعا بأن مغازلة صوت المواطن ليست إلا سرابا يحسبه الظمآن ماء، لأن هذا المواطن في عرف السلطة عيب من عيوب الإحصاء وسرعان ما تتبخر الوعود مباشرة بعد انتهاء اللعبة الانتخابية. إن المواطن الذي يئن تحت وطأة تعسف البعض وظلم الآخر، ملّ الوعود المعسولة كلما حان موعد انتخابي، لتوصد أمامه أبواب المسؤولين ويغيب الأمن والأمان من حياته، بل إن ممتهني ''البوليتيك''، على حد تعبير مالك بن نبي، لم يجدوا من حل لكبح جماح الغضب المستشري والإحباط المتزايد، سوى ترسيخ عسكرة المجتمع والتلويح بالعصا الغليظة، وبتحسيس المواطن بأن عينا تراقبه لا تحرسه، والنتيجة أينما تولي وجهك هنالك ما يكبس الأنفاس، لدرجة جعلنا من مطار الجزائر الدولي، أول واجهة لأي دولة، عالما مغلقا بمتاريس وحواجز، لنعطي للجميع عالما صغيرا لما يعيشه المواطن في عالمه الكبير، ومن المعلوم أن مسارات الأمم وتاريخها تبين أنه كلما ضعف نظام ما وفقد شرعيته وعجز عن إيجاد البدائل الفعلية للاستجابة إلى تطلعات مواطنيه، غالبا ما يلجأ إلى الوسائل القصرية كلغة تواصل وخطاب وحيدة، ولكن مع ترسخ هذا السلوك يصبح رد الفعل على أساس مبدأ فيزيائي معروف، حيث ينص القانون الثالث من قوانين نيوتن للحركة في الميكانيكا التقليدية، على أن القوى تنشأ دائمًا بشكل مزدوج، حيث يكون لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار أو القوة وعكسه في الاتجاه، وهذه هي حال الشعوب، فكلما لجأت الأنظمة إلى القوة القصرية لكتم صوتها كلما تمردت بشكل من الأشكال على هذه السلطة المركزية أو النخبة أو الزمرة التي تمثلها غالبا أقلية وبنفس اللغة التي تفهمها أي العنف، لأن لغة الخطاب التي يفهمها النظام السياسي في المحصلة هي العنف ليس إلا، وهذه هي مأساة الدول المتخلفة التي لم تجد من حيلة للحفاظ على مكاسب نخبها الحاكمة إلا منطق الولاء أو الاحتواء أو التهميش والترهيب فضلا عن منطق شراء الذمم ما دام المال متوفرا، ورغم العولمة التي ألغت الحدود الافتراضية وجعلت العالم وفق منظور مارشال ماكلوهان قرية كونية، لا ترغب الأنظمة في تغيير نمط تفكيرها، لأن التجربة تؤكد أن الأنظمة مثل الاستعمار، تلميذ غبي، كما أطلق عليه ''جياب''، لأنها لا تستخلص الدروس، وتختزل الأمر في فكرة جوهرية أنها تقود قطيعا من الدهماء الذين يمكن تسييرهم وتوجيههم بمختلف الوسائل إلى المبتغى وهو الإبقاء على الأمر الواقع، لأن السلطة هي المال والجاه والمكانة المرموقة ولا مجال للتخلي عنها يوما.