من مميزات القادة الكبار أنهم يدركون قدوم التحوّلات فيسابقون إلى قيادة التغيير، ويتحمّلون في سبيل ذلك المخاطر، ويستعدون للتضحية بعزم وصدق. لقد أدرك الشاذلي بن جديد، رحمه الله، بأن التركة التي تركها له من سبقه مسمومة، وأن الإنجازات التي تحقّقت سطحية، فلا الثورة الزراعية نجحت، ولا مخطّطات التصنيع أينعت، ولا الاتجاهات الإيديولوجية التي فُرضت في الساحة الاقتصادية والمجتمعية أثمرت. لم ينتظر الرئيس الراحل تراجع أسعار النفط ليبدأ مسيرة التغيير، كما يزعم الكثير، ولم تحفّزه التحوّلات الدولية وتهاوي الاتحاد السوفياتي، كما يظن بعض المعلّقين. علم بن جديد، منذ توليه الحكم، أي قبل الأزمة البترولية، وقبل بريسترويكا غورباتشوف، بأن أزمات الجزائر التي وجدها، والمتوقَّعة مستقبلا، لا يوجد لها من حلّ سوى الحل السياسي، فأطلق سراح السجناء السياسيين، وفكّ الحصار عن المجاهدين المعارضين، وسمح بالعودة للقادة التاريخيين، وتساهل مع نشاط مختلف التيارات، الإسلامية والشيوعية والعرقية وغيرها. كان الشاذلي حريصا على تحسين معيشة الجزائريين، ففتح الأسواق وجلب للجزائريين كثيرا من مشتهياتهم، التي كانوا يسمعون بها من قبل ولا يرونها، غير أن ذلك كان بدعم من ميزانية الدولة، ولم يكن يعبّر عن تنمية اقتصادية حقيقية. فالشادلي، رحمه الله، لم يكن يحمل رؤية اقتصادية، ولا كفاية في تسيير شؤونها، كما أن الذين من حوله لم يكونوا يملكون ذلك. إن الخصلة الأساسية التي تميّز بها الشاذلي أنه فهم بأن حلّ هذه المعضلة، وجبْرَ هذه المَنقصة، يكون بالتدافع السلمي الذي يجلب الإبداع ويضمن العمل المتقن ويشجّع على النجاح. لم تكن له ربما العزيمة الكافية والظروف المساعدة، في البداية، لتسريع عملية التغيير، فجاءت أحداث الخامس من أكتوبر 1988 ففكّت العُقد وأنهت التردّد فمنح رحمه الله للشعب الجزائري دستور فبراير 1989، فنشأت التعددية السياسية، وتحرّر الإعلام، وتأسّست الجمعيات والنقابات، وصارت الجزائر قبلة للحرية والديمقراطية، بعد أن كانت قبلة الثوار فحسب، وفُتحت الآفاق أمام الجزائريين ليصنعوا مجدا عظيما ونموذجا راقيا يقود العالم العربي والعالم الثالث نحو التطوّر والقوة والرفاهية. ولكن الأمر لم يكن هكذا، للأسف الشديد، إذ إن الصراع المحموم على السلطة، بين من أراد أن يصل لها بالاستقواء بالشارع ومن أراد أن يبقى فيها بقوة العسكر، أدى إلى انكسار التجربة وضياع الفرصة. كان الشاذلي بن جديد يريد إكمال التجربة مهما كان التشدد الذي ظهرت به الجبهة الإسلامية للإنقاذ، إذ إن الشعب ذاته سيكون كفيلا بشططها، والقوى السياسية الأخرى ستكون أقدر على مجابهتها سياسيا، وهم في امتحان التسيير. حينما وُضع الشاذلي بين خياري المشاركة في الانقلاب على نتائج انتخابات ديسمبر 1991 أو الاستقالة اختار الثانية، فخرج منها بريئا لم يصادم ضميره، ولم يشوّه تاريخه، ولم يلطّخ يديه بالدماء، ولم يتسبّب في ما لحق الجزائر من بعده من مآس، ولكنه ترك إرثا ديموقراطيا كبيرا أخذ بالتراجع منذ مغادرته الحكم، كلما جاء حاكم من الحكام أنقص منه شيئا، فلم يبق منه اليوم سوى هوامش هزيلة لا تصلح لخدمة الوطن، ولا لحمايته مما ينتظره من مصاعب إن استمر الحال على ما هو عليه. ولا بد يوما، طال الزمن أو قصر، أن تعود الجزائر للرؤية السياسية التي سار عليها الشاذلي بن جديد: الحرية والديمقراطية مهما كانت نتائجها، والتداول السلمي الفعلي على السلطة من أجل حلّ أزمات الجزائر وتنميتها ونهضتها.