شامة زيغود: كل التكريمات في المناسبات الثورية كانت من قِبل سلطات سكيكدة وليس قسنطينة بن بلة وهبني ''فيلا'' وبومدين أرسلني إلى البقاع بالرغم من أن اسم الشهيد زيغود يوسف أشهر من نار على علم، فلا يمكن أن نتحدّث عن عظماء الثورة التحريرية، أو سرد أهم مراحلها وتحوّلاتها دون ذكر اسمه، إلا أن المفارقة الغريبة التي وصلنا إليها، خلال البحث عن عائلة الشهيد بقسنطينة، أنه لا أحد يعرف مكان تواجدهم، حتى مديرية المجاهدين لا تملك أي معلومات عنهم، ليشاء القدر أن تتصل ابنة الشهيد الوحيدة، شامة زيغود، لتقديم توضيحات حول مشروع الفيلم المزمع إنتاجه عن والدها، وهناك فقط عرفنا مكان إقامتها رفقة والدتها، والذي لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن سجن الكدية. كان توقيت الزيارة الخاصة لعائلة أحد أبطال الثورة، الشهيد زيغود يوسف، متزامنا مع وفاة زوج السيدة شامة، إلا أنها حرصت على استقبالنا في بيت والدتها، الكائن بحي الكدية، حيث ضربت لنا موعدا في الساعة الثانية بعد الزوال. هناك من يستغل اسم زيغود يوسف لقضاء مآربه وصلنا إلى منزل أحد رموز الثورة الجزائرية.. ونحن ندقّ الباب خالجنا شعور خاص، أعاد إلى مخيّلتي صورا تلفزيونية لطالما شاهدتها وأنا صغير، تمازج فيها الأبيض والأسود، تروي كفاح ونضال رجال أبوا إلا أن يسقوا تراب الجزائر بدمائهم الطاهرة. لم يكتب لزيغود يوسف أن يسكن بيته، إلا أنه جاهد من أجل أن تعيش فيه زوجته وابنته، قدّم النفس والنفيس لكي ينعما في دفئه.. دفع روحه ليخرج المعمّرون من حيّ لم يكن يحقّ للجزائريين ولوجه والعيش بين أحضانه. طرقنا الباب ففتحته لنا السيدة شامة، كما فتحت لنا قلبها فيما بعد.. وبالرغم من الحزن الذي كان باديا على وجهها، لفقدانها زوجها منذ فترة وجيزة، إلا أنها استقبلتنا استقبالا حارا، وبثغر باسم أدخلتنا قاعة الضيوف.. بدت الشقة بسيطة، بعيدة في ديكورها عن أي نوع من أنواع الترف أو البذخ. كانت غرفة الجلوس مليئة بصور الشهيد التي توضّعت تباعا على الجدران، اخترنا مكانا للجلوس، وكانت بجانبنا زوجة الشهيد.. امرأة تحمل تقاسيم وجهها ألف قصة وقصة، تروي تلك اللحظات القاسية والعصيبة التي عاشتها إلى جانب زوجها، فكانت السند المعنوي القوي له، حتى استشهد في سبيل الوطن، وقد أنهكتها السنين.. وقفت لترحّب بنا، ودعتنا إلى ارتشاف فنجان قهوة وتذوّق بعض الحلويات التقليدية القسنطينية التي وضعتها على الصينية. استهلت ابنة الشهيد زيغود يوسف حديثها، ونبرة الغضب تعتري صوتها، ''قبل الحديث عن والدي أرغب في توضيح شيء مهم، هناك الكثير ممن يستغلون اسم والدي، ويدّعون أنهم من أقاربه، إلا أن الشهيد زيغود يوسف لم يبق من أقاربه سوى والدتي، السيدة عائشة زيغود، وأنا، وحتى عمّتي الوحيدة، زبيدة، توفّيت منذ 5 سنوات، وإخوتي الأربعة، أيضا، توفّوا كلهم بعد عام من ولادة كلّ منهم''، واستنكرت شامة استغلال بعض الأطراف اسم الشهيد لقضاء مآربهم الخاصة. لتضيف ''رغم أنني أقطن على حافة الوادي، بحي ساقية سيدي يوسف، إلا أنني لم أفكّر في استغلال اسم والدي، للظفر بمسكن لائق، وأنا أستعمل لقب زوجي الراحل، ووالدتي تستعمل لقبها العائلي ''طريفة'' للعلاج''، مؤكّدة أن القليل من السلطات في قسنطينة يعلم أن عائلة الشهيد زيغود يوسف تقطن في قسنطينة، في حين أن كل التكريمات التي تحصّلت عليها العائلة في المناسبات الثورية كانت من قبل سلطات ولاية سكيكدة''. عائلته كانت منبع وطنيته بدأت الحاجة عائشة طريفة حديثها، عن قرينها الراحل، بمولده في فيفري من سنة 1921، بدوار الصوادق بمنطقة السمندو، والتي تحمل اليوم اسمه ''بلدية زيغود يوسف'' في قسنطينة، في أسرة قالت عنها إنها كانت منبع وطنيته وحبّه للجزائر، زيادة على محافظتها على التعاليم الإسلامية، إذ ترعرع في وسط يلعن الاستعمار، وهمجيته، واستغلال ''الكولون'' للجزائريين. وواصلت الحاجة عائشة أن زوجها الشهيد، وككل الأطفال في تلك الفترة، التحق بالكتّاب لحفظ القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه دخل المدارس الفرنسية، وتحصّل على الشهادة الابتدائية، إلا أنه لم يكمل تعليمه، مثله مثل أغلب الجزائريين. توقّفت محدّثتنا قليلا، ثم انتقلت بنا إلى مرحلة شبابه، فروت اكتسابه لمهارات حرفية أهمّها الحدادة، وهو ما مكّنه من مساعدة عائلته من خلال احترافه لهذه المهنة بالسمندو، التي كان يعتز بها، كما قالت، حيث كانت لها الفضل، أيضا، في أن تمكّن من الاعتماد على نفسه في فتح بيت، والزواج بها في سنة 1942. وعن نضاله السياسي، قالت: ''إضافة إلى عمله اليومي لكسب رزقه، لم يكن يدّخر جهدا للمطالعة والنضال السياسي.. في ذلك الوقت لم يكن نشاطه نضالا سياسيا، بل نضالا من أجل الجزائر''، مضيفة أن يوسف كان قد دخل معترك النضال سنتين قبل زواجهما، من خلال اتصال حزب الشعب به للالتحاق بالمنظّمات المنضوية تحت لوائه، نظرا لما أظهره من حماس وحب للوطن. الشهيد لم يكن يملّ ولا يكلّ النضال ليل نهار استرسلت قرينة الشهيد البطل في الحديث عن زوجها، حيث عادت وقلّبت صفحات الذكريات، وعادت إلى أكثر من 60 سنة إلى الوراء، بحديثها عن عمله السري.. حتى وإن قالت إن ذاكرتها أصبحت ضعيفة، ولا تتذكّر الكثير من التفاصيل بسبب كبرها في السن، إلا أنها لا زالت تقف عند خروج زيغود يوسف ليلا في جنح الظلام، ومهما كان الفصل شتاءً أم صيفا من أجل توزيع المناشير، المشبعة بالفكر الوطني، ما جعل الكثير من شباب المنطقة، في ذلك الوقت، يلتحقون به في العمل النضالي. ارتسمت في لحظة ابتسامة مميزة على محيا الحاجة عائشة، وكأنني بها قد سافرت في دهاليز الماضي، وقالت ''كان يوسف قائد مظاهرات 08 ماي 1945، وجنّد الكثير من الشباب والشيوخ للخروج إلى الشارع والتظاهر ضدّ القمع الفرنسي وضدّ الاحتلال. وأؤكّد لكم أن التحضيرات والاستعدادات انطلقت من بيتي، إذ ساهمت في خياطة العشرات من الأعلام الوطنية، وقضيت الليل بأكمله لتحضيرها. وروح الوطنية التي لطالما أمدّني بها زوجي تسبقني. لم أحس بتعب ولا كلل، همّي كان أن يكون الكل في الموعد. وفي الصباح الباكر خرج زوجي ورفاقه حاملين الأعلام الوطنية والأسلحة والبنادق''. وعن لقاءاته السرية، قالت السيدة عائشة ''منزلنا كان مقر كل لقاءاته السرية، فحين كان يطلب مني تحضير كمية كبيرة من الطعام، كنت أعلم أنه يحضر لاجتماع سري، وبعد انتهائي من إعداده كان يأخذني رفقة الأولاد إلى منزل خالته، وحال انتهاء الاجتماع يعود لاصطحابنا إلى البيت. كان يوسف يفعل ذلك خوفا علينا.. خوفا من هجوم الجيش الاستعماري على المنزل، والقبض علينا جميعا. كما إنني كنت، وفور عودتنا إلى المنزل، نعمل على حفر الأرض، للتخلّص من بقايا العظام كي لا يكتشفها المستعمر''. وأضافت ''بعد حوالي سنتين أصبح الشهيد أكثر غيابا عن المنزل ولفترات طويلة، حيث كان يلتقي برفاقه في الجبال للتدرب على السلاح، والعمل العسكري''، وهو الجانب الذي كان يخفيه عنها الشهيد ولا يحدّثها عنه إلا بعد اندلاع الثورة، حفاظا على السرية، وخوفا من وقوع الأسرة في يد المستعمر، وهي تحمل معلومات عسكرية قد تهدّد كل ما كان يقوم به، إلا أنه لم يتوقّف عن العمل السياسي، حيث قالت إنه ترشّح في الانتخابات وفاز بها، لما كان يملكه من شعبية وحب الناس له، فأصبح مستشارا بلديا بسمندو. تغيّرت نبرة صوت الحاجة فجأة، اغرورقت عيناها وهي تتذكّر حادثة اعتقاله بداية الخمسينيات، بعد اكتشاف المستعمر للمنظّمة الخاصة، فاعتقل مع الكثير من رفقائه وأودع السجن الكبير بعنابة. يوسف ورفاقه فروا من السجن بعد جهد 20 يوما ذكرت السيدة عائشة أن كثرة مطالعة يوسف للكتب جعلت منه شخصية قادرة على التخطيط، وهو ما مكّنه من الفرار من السجن خلال اعتقاله، حيث روى لها أن فراره كان بأدوات بسيطة جدا، بعد أن لاحظ أن الزنزانة الملاصقة لزنزانته فارغة ومهجورة، إذ استغل الوضع هو ورفاقه، وأحدثوا ثقبا في السقف دون أن يلاحظ حراس السجن ذلك، وبعد 02 ليلة من العمل، استطاعوا الفرار ليلا، والتحقوا، بعد أيام، بجبال الأوراس، واتّصلوا ببن بولعيد، وبقوا هناك حوالي سنة. وتقول زوجته إنها علمت بفراره من المستعمر، حيث وفد عشرات الجنود إلى المنزل، وقلبوه رأسا على عقب بحثا عن يوسف، وبقيت قوات الاحتلال مرابطة بمنزلها لأزيد من 6 أشهر، وهدّدها الجنود الفرنسيون أنه إذا جاء زيغود يوسف إلى المنزل سيقتلونها ويقتلونه. ليلة استشهاد البطل ودّع عائلته وأحس بقرب منيته استمرت السيدة عائشة في الحديث عن زوجها، مؤكّدة أنه كان أحرص الناس على سرية العمل العسكري الذي يقوم به، فقد كان قليل الحديث عن المواجهات مع المستعمر، لتصل بنا إلى ليلة استشهاده، حيث قالت ''قبل أن ينتقل زوجي يوسف إلى سوق أهراس فضّل المجيء إلى البيت لزيارتنا، فبقي ليلتين معنا، وهو أمر نادر جدا، إذ منذ اندلاع الثورة لم يزرنا لأكثر من سويعات قليلة. طلب الالتقاء بكل أقربائه، واستدعى شقيقته أيضا، وكأنه كان يدري أن منيّته اقتربت. وفي يوم 23 سبتمبر 1956 خرج من البيت خفية إلى المجاهدين لتوديعهم، وبعد ذلك رافقه أربعة منهم إلى المهمّة التي كُلّف بها، ونصب له الجيش الاستعماري كمينا في الطريق، فوقع شهيدا مع مرافقيه بعد معركة ضارية، كما سمعنا تقول المتحدّثة، وشاء الله أن يستشهد البطل زيغود يوسف في وادي بوكركر، وهو المكان نفسه الذي استشهد فيه ديدوش مراد. بعد استشهاده تردف محدثتنا ''أحرق المستعمر منازلنا بالمنطقة مرتين، ما اضطرنا للسكن في إسطبل ''بوزايدة'' في سمندو، إلى غاية 1957، حين اشترى لنا المجاهدون كوخا في أرض طنوجي بقسنطينة، حيث كنّا ثمانية من زوجات الشهداء، ومعنا أطفالنا، ومكثنا هناك قبل فرارنا إلى تونس، أين مات الكثيرون عند خط الموت''. بن بلة أمر لنا بمسكن وبومدين أرسلني إلى الحج على نفقة الدولة تواصل الحاجة حديثها معنا ''بقينا هناك 6 أشهر، قبل أن يتكرّم علينا الرئيس السابق أحمد بن بلة، حيث أمر العربي الميلي بإعطائي سكنا في منطقة سيدي مبروك، وكان بيتا فخما من طابقين لكني لم أكن أستطيع العيش فيه بمفردي رفقة ابنتي، لكبره فانتقلت إلى هذه الشقة البسيطة وأعدت ''الفيلا'' إلى الدولة''، كما أضافت أنه لا يمكنها أن تنسى فضل الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي أمر بأن تتكفّل الدولة بكل مصاريف الحج، خلال زيارتها للبقاع المقدّسة سنة 1975. المجاهدون تكفّلوا بتعليم شامة من جهتها، روت السيدة شامة أنه حين استشهد والدها كان عمرها 8 سنوات، وهي لا تتذكّر الكثير عنه إلا أشياء قليلة، بحكم أن والدها كان قليل التردّد على المنزل منذ انغماسه في العمل السياسي، وأكثر بعد دخوله معترك الحرب التحريرية، حيث قالت إنه وبعد أن استشهد تكفّل المجاهدون بها، من خلال نقلها إلى تونس وتعليمها، إذ قالت، وهي تسترجع ذكرياتها، إنها مشت لأيام طويلة وسط الأحراش والغابات والجبال مع مجموعة من المجاهدين، رفقاء والدها الشهيد، إلى أن وصلوا إلى الحدود التونسية، حيث رابطوا بالقرب من الأسلاك الشائكة المكهربة والملغّمة بالقنابل، إلى أن أتيحت الفرصة لهم لعبور الخط المكهرب، حيث عايشت المجاهدين وهم يخطّطون وينفّذون عملية الاختراق. تقول شامة: ''بالرغم من صغر سني إلا أنني تعلّمت بعض القواعد العسكرية، من أجل العبور إلى الجهة المقابلة من الحدود. وفي تونس عشت عند عائلة تونسية عدة سنوات، وهناك تلقّيت تعليمي، ثم عدت إلى الجزائر''.