تبقى العلاقات الاقتصادية بين باريس والجزائر بين مد وجزر. ففي الوقت الذي تصنّف فيه فرنسا بأنها مع سنوات 2011 و2012 أهم مستثمر خارج المحروقات مع تجاوز سقف ملياري أورو، يعتبر الجانب الجزائري أن التدفقات المالية الفرنسية تظل متواضعة، خاصة إذا ما قورنت مع الجارتين المغرب وتونس، وإن كان مناخ الأعمال والاستثمار أفضل بكثير في هذين البلدين مقارنة بالجزائر. ويتسم السلوك الفرنسي بالكثير من الواقعية والبراغماتية، والقدرة على التكيّف مع طبيعة إدارة جزائرية مركزية وبيروقراطية، حيث أضحت الملفات الاقتصادية تتقاطع مع السياسي. كما تم تعيين مسهل للاستثمارات ممثلا للرئيس الفرنسي بصلاحيات كافية للحسم، كما تؤكده خطوة تجسيد مشروع ''رونو'' للسيارات الذي لا يعتبر من الناحية الاقتصادية والعملية ذات أهمية استراتيجية ولا يحقق مردودية بقدر ما أملته اعتبارات سياسية، نزولا عند رغبة السلطات الجزائرية بالنظر إلى أهمية السوق الجزائرية. بالنسبة للشركات الفرنسية فرونو تسوّق ما بين 150 إلى 200 ألف سيارة سنويا، خلال الأعوام القليلة الماضية وتركيب ما بين 25 ألف إلى 50 ألف وحدة كمرحلة أولى لن يغيّر من الوضع الكثير، خاصة وأن المنتج سيورد كمادة مصنعة قابلة للتركيب من مصانع رونو بتركيا ورومانيا أو فرنسا. علما أن شركات السيارات الفرنسية تسيطر على السوق المحلي في الجزائر بحصة سوق تفوق 30 بالمائة، على رأسها ''بوجو'' و''رونو'' و ''سيتروان''. في نفس السياق، تستفيد الشركات الفرنسية من موقع متميز وريادي في السوق الجزائري، مقارنة بحجم الاستثمارات التي تقوم بها محليا. ف''ألستوم'' افتكت أو يرتقب أن تفتك مشاريع تجهيز وإنجاز الترامواي في العديد من المدن الجزائرية بعد العاصمة، بقيمة تفوق ملياري أورو مقابل مشروع تركيب بعنابة بنسبة إدماج متواضعة بنفس قاعدة 49-51 بالمائة. وساهمت هذه المشاريع في دعم توازن الشركة الفرنسية التي كانت تعاني من اختلال مالي. وساهمت فرنسا بصورة كبيرة في دعم الخيار الجزائري المتمثل في قاعدة الاستثمار 49-51 بالمائة، مع اعتمادها لأول مرة من قبل المجموعة المتخصصة في مجال التأمينات ''أكسا''. وفي الوقت التي تفيد فيه الأرقام الفرنسية بأن قيمة الاستثمارات تجاوز سقف ملياري أورو وتفعيل المشاريع المشتركة، مع تعيين جون بيار رافارين مسهّلا للاستثمارات الفرنسية، سجلنا أن الشركات الفرنسية بالمقابل دعمت مواقعها بصورة غير معلنة، مع الحصول على عشرات العقود الهامة الخاصة بالتجهيز والإنجاز والتسيير، بداية بتسيير مطار هواري بومدين الدولي من قبل ''مؤسسة مطارات باريس '' وشبكة المياه للعاصمة من طرف ''سويز'' وقسنطينة من قبل ''مارسيليا للمياه'' وميترو الجزائر وترامواي العاصمة من قبل ''مؤسسة النقل الحضري الباريسي ''أر أي تي بي'' وشبكة الإشهار بالمطار الدولي بالعاصمة لشركة ''جي. سي. ديكو'' وتأطير ومصاحبة عمليات تطوير فرع إنتاج الحليب من قبل بروتان الدولية، إلى جانب إنتاج الإسمنت من قبل لافارج وإنتاج الأدوية من قبل ''صانوفي أفانتيس'' التي تمتلك أهم حصة سوق للأدوية في الجزائر. وتتنافس الشركات الفرنسية للظفر بعقود هامة أخرى، للإشهار في العديد من المطارات الجزائرية وتجهيز الطريق السيار شرق غرب. وينشط في الجزائر ما بين 450 إلى 480 مؤسسة ومقاول فرنسي يشغلون قرابة 40 ألف عامل. لكن بالمقابل، نجد أن هناك ما بين 9 آلاف إلى 10 آلاف مؤسسة فرنسية تتعامل مع الجزائر تجاريا، مما يرسّخ المقاربة التجارية في العلاقات الثنائية. وتظل مستويات تواجد المؤسسات الفرنسية في الجزائر أقل بكثير من مثيلتها في المغرب. ويعود السبب إلى عدم توفر مناخ استثمار ملائم مقارنة بما يوفره السوق المغربي وإلى العقبات البيروقراطية التي دفعت بالكثير من المشاريع إلى الانتقال إلى الدول الأخرى، كما عكسه مشروع ''رونو طنجة'' البالغ 600 مليون أورو والذي انتقل إلى المغرب بعد مفاوضات متعثرة في الجزائر لسنوات. علما أن عدد المؤسسات الفرنسية المتواجدة بالمغرب تفوق 800 مؤسسة ونجحت المغرب في 2010 في استقطاب 71 بالمائة من الاستثمارات الفرنسية ما يعادل 1 ,9 مليار أورو مقابل 15 بالمائة للجزائر بقيمة 9, 1 مليار أورو لعدم توفر المناخ الاستثماري المناسب.