موريس أودان ما يزال محلّ تحقيق تاريخي إلى غاية اليوم ساحة موريس أودان بقلب العاصمة الجزائرية افتكّت مكانة امتيازية في مخيّلة الجزائريين، ولا تزال اللوحة التذكارية للرجل الشاب الذي كسر عصا النظام الاستعماري توقظ الأسئلة في أذهان الشرائح الشبّانية، المتعلّمة وغير المتعلّمة، عن خلفيات اجتهاد الديمقراطية الفاشية في اغتصاب أرضهم وتجويع وتهجير وتيتيم شعبهم وبناء السجون وتنظيم المحرقة ضدّه. فساحة أودان هي رمز الاختفاء القسري لآلاف الجزائريين خلال معركة الجزائر، فهل يُنجب ''المكان- الذاكرة'' وعيا جديدا. بساحة موريس أودان، لا تزال اللوحة التذكارية للمثّقف والمناضل الشاب تنقل تحيّتها للذين مرّوا من هناك وللقادمين من وجهات أخرى. من تلك الساحة التي تقطع شارع ديدوش مراد يطالب موريس أودان، الذي ظلّ على امتداد أزيد من نصف القرن محلّ ''تحقيق تاريخي''، ولا يزال، من أصحاب القرار في الدولة الفرنسية أولا، ومن بقايا النظام الكولونيالي في فرنسا ثانيا، ممن لازالوا يحلمون ب''الجزائر الفرنسية''، منحه حقوقه الكاملة. موريس أودان.. القضية العالقة من تلك الساحة التي تتوسّط جامعة الجزائر وشارع ديدوش مراد، الواقعة قبالة الخطوط الجوية الجزائرية، اكتشف مئات الشباب، ممن اصطفوا لتحية هولاند ورؤيته، موريس أودان، حيث كانت وقفة رئيس الجمهورية الفرنسية أمام النصب التذكاري كافية لتكتشف الحشود البشرية رمزية المكان، لأن كثيرا من الشباب ظلّوا، لوقت طويل، يردّدون اسم ''أودان'' بالعادة، لدرجة أن بعضهم لا يتردّد في تسمية طول الشارع الممتد من البريد المركزي إلى ديدوش مراد بساحة أودان، من غير معرفة من هو موريس أودان، الذي وقف إلى صفّ الجزائريين في الدفاع عن قضيتهم. فبالنسبة للرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الذي كان يكبر مع كل خطوة يخطوها في شوارع العاصمة، ظلّ موريس أودان يعتبر أن العودة للتاريخ ضرورية من أجل تحضير المستقبل، وربما هي القناعة التي راحت تملأ الآفاق على هولاند كالوسواس، بعد أن أصبح متأكّدا، أيضا، أن التاريخ يزحف بجوانبه المظلمة على فرنسا القرن الواحد والعشرين. ففي خطوة تعدّ الأولى من نوعها في تاريخ فرنسا ترحّم الرئيس الفرنسي هولاند على روح موريس أودان، المناضل من أجل استقلال الجزائر، بساحة أودان بقلب العاصمة، أين يتواجد النصب التذكاري، معترفا بأنه سيمضي على نحو جادٍ في فتح الأرشيف الخاص بأودان، الذي تمّ توقيفه يوم 11 جوان بمنزله من قبل المظلّيين خلال معركة الجزائر، ولفظ أنفاسه يوم 21 جوان من عام 1957، ولا تزال قضيته عالقة إلى غاية اليوم. هكذا أصبح جثمان موريس أودان، الذي لم يظهر أي أثر لجثّته إلى غاية اليوم، رمزا لآلاف المفقودين الجزائريين في معركة الجزائر. هولاند يتذكّر ذكرياته مع السمك.. ساحة موريس أودان بقلب العاصمة أصبحت نقطة فارقة في مسألة ''اعتراف'' فرنسا بما فعلته في الجزائر طيلة أزيد من 132 عاما، بحسب بعض المحلّلين للخطوة التي أقدم عليها فرانسوا هولاند، حيث إن فتح أرشيف موريس أودان يعني فتح باقي أرشيف المفقودين الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية. بل تطرح قضية الاعتراف تساؤلات أخرى مفادها: هل ردّ الاعتبار لموريس أودان، أحد الذين دافعوا عن القضية الجزائرية بكسر عصا طاعة النظام الكولونيالي، يعني أن فرنسا تريد التصالح مع نفسها، وتريد من الجزائر أن تتصالح مع الذين خانوا القضية مثل الحركى؟ فالرئيس الفرنسي، الذي صافح أيادي الحشود الشبانية الممدودة إليه وسط هتافات الجماهير ودوي طلقات البارود لفرقة الفروسية، عادت به الذاكرة إلى الأيام التي قضاها بالجزائر، أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبالضبط سنة 1978، حيث زار مطعما وحانة بالقرب من جامعة الجزائر، حيث قال صاحب المطعم، حسن فناك، بحسب ما تناقله بعض الحضور، إن هولاند قال لي: ''إن المطعم جميل ويقدّم سمكا جيدا''، وأضاف ''أكّد لي أنه كان من بين المطاعم المفضّلة لديه سنة 1978، عندما كان يعيش في الجزائر، عندما كان يقوم بتربّص في السفارة الفرنسية، قبل تخرّجه من المدرسة الوطنية للإدارة بباريس. ويعترف بعض الأساتذة بمحاذاة الجامعة المركزية أن ساحة أودان لم يكن لديها حضور رمزي في مخيّلة عدد كبير من الجزائريين، ولاسيما الأجيال الشبّانية الحديثة. موريس كان يوزّع المناشير ويأوي المجاهدين.. وقفة الرئيس الفرنسي أمام اللوحة التذكارية بالساحة المذكورة أيقظت عديد الأسئلة في أذهان الشرائح الشبّانية، ولاسيما المتعلّمة، فقد أصبح العديد منهم يعرف أنه في الوقت الذي كانت شوارع ''ديزلي'' و''ميشلي'' وشوارع أخرى بقلب العاصمة ممنوعة، بل ومحرّم على العرب، و''الأنديجان'' بشكل عام، دخولها، كان موريس أودان، الذي كان يشتغل أستاذا مساعدا في الرياضيات في جامعة العلوم بالجزائر، يقوم، رفقة أخيه وأخته، بمساعدة الجزائريين في كفاحهم ضدّ الاستعمار الفرنسي، لاسيما بتوزيع المناشير وإيواء المجاهدين في بيته وبيوت عدد من أصدقائه، وسنّه لا يتجاوز 25 عاما، حيث كان أبا لثلاثة أطفال، وعضوا بارزا في جمعية الطلبة الشيوعيين، وتربطه علاقة حميمية بجمعية الطلبة المسلمين الجزائريين. وقد دعت زوجة موريس أودان، السيدة جوزيت، الرئيس هولاند، قبل أيام من زيارته للجزائر، إلى إدانة التعذيب الذي تعرّض له زوجها، وكذا باقي الجزائريين المختفين قسرا في معركة الجزائر. وقد كان الرئيس الفرنسي عند وعده، حين اعترف بأن الجزائريين كانوا ضحية نظام استعماري ''غير عادل وظالم ومتوحّش''، ولو أن جوزيت قالت إنها كانت تنتظر إدانة صريحة من فرنسا لاغتيال زوجها على يد المظلّيين. فحسب روايات الجيش الفرنسي، استنادا لمراجع تاريخية، فإن موريس أودان يكون قد هرب بعد أن قفز من سيارة من نوع ''جيب''، كانت تقلّه من مكان اعتقاله باتجاه الوجهة التي اقتيد إليها، إلا أن شهادات لبعض أفراد عائلته السياسية تشير إلى أن قضية موريس أودان ما تزال محلّ تحقيق تاريخي، حيث يقول المؤرّخ بيار فيدال ناكات، الذي كتب في ماي 1958 في أول نسخة من كتابه بعنوان ''قضية موريس أودان''، أن مسألة ''فرار أودان كانت مستحيلة، فموريس تعرّض لعملية تعذيب وقتل يوم 21 جوان 1957 من قبل الملازم شاربونيي''، الذي كان ضابط استعلامات يشتغل تحت أوامر الجنرال ماسو. ومع ذلك فإن الجنرال أوساريس، الذي كان منسّقا لمصالح الاستعلامات، التي كان مقرها بفيلا بشارع ليتورال بحيدرة آنذاك، قد كذّب هذه الرواية في حوار لصحيفة ''لوموند''، وقال إن شاربونيي لم يكن في القطاع العسكري الذي قُتل فيه أودان. الجنرال أوساريس المتقاعد، الذي يبلغ من العمر اليوم 94 عاما، ويبدو في مظهر شبه أعمى، ظلّ متكتّما بشأن قضية موريس أودان، وفي آخر تصريح لصحيفة ''نوفال أوبسارفاتور'' قال: ''رأيت موريس أودان مرة واحدة في مقرات الأبيار، بعد وقت قليل من توقيفه، وبعدها لم أره قط، لا حيا ولاميتا، فلست أنا من أعطى الأمر بتوقيفه''. فقضية موريس أودان، وعلى امتداد 55 عاما من البحث عن الحقيقة، شكّلت تحوّلا هاما في وعي الفرنسيين بشأن تعميم ممارسة التعذيب في الجزائر. وقفة هولاند بساحة أودان قطيعة مع الأكذوبة وإذا كان المؤرّخ الفرنسي المشهور بنجامين ستورا يقول ''إن مبدأ وتفكير الرئيس الفرنسي في زيارة ساحة أودان يعني الاعتراف بما قدّمته هذه الشخصية للثورة الجزائرية''، فإن المؤرّخ الفرنسي جون لوك إينودي علّق على وقفة ترحّم هولاند على موريس أودان بالقول ''إن التفاتة الرئيس هولاند تعدّ قطيعة مع الأكذوبة''، وأضاف ''نعرف أن موريس، هذا المناضل في القضية الجزائرية قد اختُطف من قِبل الجيش الفرنسي سنة 1957، ونعرف كذلك أن الرواية الرسمية كانت أكذوبة، حيث ادّعت أن موريس قد فرّ''، وقال بشأن الأرشيف: ''إنه من الوهم الاعتقاد بأن الحقيقة يمكن أن توجد في أرشيف مصالح الدولة''. وهذه المسألة يمكن أن نطرح بشأنها تساؤلات مفادها: هل فتح الأرشيف سيطال مسألة الكشف عن النفايات النووية جرّاء انفجار القنابل التي تمّ تجريبها في الصحراء الجزائرية؟ وهل الأرشيف سيُفتح، أيضا، أمام الجزائر لتسليط الضوء أكثر على ملف الحركى؟ والحقيقة أن اعتراف الرئيس الفرنسي للشعب الجزائري، وللدولة الجزائرية، بما قام به النظام الاستعماري الكولونيالي في الجزائر هو اعتراف بأفعال، وليس اعترافا ب''جرائم دولة''، بحسب تحليلات بعض المؤرّخين، وهذا هو السرّ في إجماع الجزائريين، من سياسيين ومثقّفين، على أن الاعتراف بقدر ما يعدّ خطوة إيجابية، إلا أنه غير كافٍ. فما هو السرّ في عدم ذهاب فرانسوا هولاند إلى أبعد حدّ في الاعتراف بما فعلته فرنسا في الجزائر؟ هولاند ليس حرّا في الاعتراف بكل شيء قال المؤرّخ الفرنسي بنجامين ستورا، في أحد حواراته مع إحدى الصحف الصادرة بباريس، إن ''هولاند كان أمام خيار جمع شتات فرنسا في الوقت الحالي لا مع تفريقها، فضلا عن وجود الجماعات الضاغطة، المتمثّلة في مجموعات ذاكرة الجزائربفرنسا، وجمعيات الأقدام السوداء والحركى.. إلى جانب وجود مجموعة أخرى لا يتكلّم عنها كثيرا، وهي الأقوى في فرنسا، وهي المؤسّسة العسكرية''. وأضاف ''لا يجب أن ننسى وجود نحو مليونين من الجنود الفرنسيين ممن ساهموا في الحرب بالجزائر، وهي المجموعة الكبرى التي تحتفظ بذاكرة الحرب في الجزائر''، ما يعني أن الرئيس الفرنسي ليس حرّا في الاعتراف بما يشاء. ويعترف المؤرّخ نفسه أن عودة مطلب الاعتراف بما قامت به فرنسا في الجزائر هي قضية حديثة تعود إلى بضع سنوات، وبالضبط سنة 2005، إذ ''خلال تصويت الجمعية الوطنية الفرنسية على المادة 04 من القانون المتضمّن تمجيد الاستعمار في الجزائر، تصاعدت حدّة لهجة الجزائريين وتحوّل الماضي الاستعماري بشكل خاص إلى رهان سياسي بين البلدين''. هذا الرهان أفرغ محتوى ميثاق الصداقة من محتواه وأصبح لا حدث. الماضي الاستعماري رهان سياسي بين البلدين لكن السلطة في الجزائر فهمت مسألة تمجيد الاستعمار على أنها حلقة من حلقات ردّ الفعل في مسلسل الحرب الباردة بين صناع القرار في الإليزيه والجزائر، وعملت على تنويع الشركاء الاقتصاديين الأوروبيين ممن يريدون ركوب قطار الاستثمارات في الجزائر، حيث منحت ورقة الأفضلية للولايات المتحدةالأمريكية والصين واليابان والهند وألمانيا وإيطاليا وبعض دول الخليج، وذلك على نحو وضع الفرنسيين في موضع المتفرّج على سوق راحت تفلت منهم، وهم الذين كانوا يطمحون دائما لتبوء مكانة امتيازية فيه. الجزائريون بدأوا يتساءلون عن جذور الاستعمار وعليه، فإن مسألة الاعتراف، التي قادت هولاند إلى الوقوف بساحة أودان. هذا المكان البارود الذي سيحيي ذاكرة الجزائريين، هي لتدارك ما فاتها في السوق الجزائرية، وإصلاح ما أفسدته الديمقراطية الفاشية في فرنسا. ''فالقضية في مسألة الذاكرة لدى الجزائريين اليوم هي النظام الاستعماري، وكيف فُرض هذا النظام في الشوارع والطرقات والحياة العامة لمدّة طويلة؟ أي لماذا وصل الفرنسيون إلى الجزائر؟ وكيف عمّروا فيها لمدة 130 سنة؟ هل نحن الجزائريون عشنا مع هذا التاريخ كله؟''، يقول بنجامين ستورا. ويضيف ''في الجهة المقابلة للبحر المتوسط، ليست هذه هي وجهة النظر بالنسبة للفرنسيين، فهم يثيرون فقط نهاية الحرب، مع مسألة هجرة الأقدام السوداء، وتصفية الحسابات مع الحركى، ونهاية حقبة الجزائر الفرنسية. هذا في الوقت الذي يتحدّث الجزائريون عن جذور هذه الحرب''.