معلوم أنّ هذا الامتحان والاختبار إنّما يكون قد حصل عند أوّل مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأوّل، بل لم يحصل عند المولود الآخر من عدم مزاحمة الخلّة ما يقتضي الأمر بذبحه وهذا في غاية الظهور. وأيضًا، فإنّ سارة امرأة الخليل صلّى الله عليه وسلّم غارت من جاريتها هاجر وابنها إسماعيل أشدّ الغيرة.. فإنّها كانت جارية فلمّا وُلد إسماعيل وأحبّه أبوه اشتدّت غيرة سارة، فأمر الله سبحانه أن يبعد عنهما هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة، لتبرد عن سارة حرارة الغيرة. وهذا من رحمته تعالى ورأفته فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبَح ابنها ويدع ابن الجارية بحاله؟ هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها. بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمُر بذبح ولد الجارية هاجر، فحينئذ يرقّ قلب السيّدة عليها وعلى ولدها، وتتبدّل قسوة الغيرة إلى رحمة، ويظهر لها بركة الجارية وولدها، وأنّ الله لا يضيع بيتًا هذه وابنها منهم، وليرى عباده جبره بعد الكسر ولطفه بعد الشدّة، وأنّ عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتّسليم إلى ذبح الولد، آلَت إلى ما آلت إليه: مَن جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبّدات لهم إلى يوم القيامة، وهذه سنّته تعالى في مَن يُريد رفعه من خلقه أن يمُنّ عليه بعد استضعافه وذلّه وانكساره، قال تعالى في سورة القصص: {ونريد أن نمُنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم.