إنّ الله سبحانه أجرى العادة البشرية أنّ بكر الأولاد أحبّ إلى الوالدين ممّن بعده، وسيّدنا إبراهيم عليه السّلام لمّا سأل ربّه الولد ووهبه له تعلّقت شعبة من قلبه بمحبّته، والله تعالى قد اتّخذه خليلاً، والخلّة منصب يقتضي توحيده المحبوب بالمحبّة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلمّا أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلّة تنتزعها من قلب خليل الله عليه السّلام فأمره بذبح المحبوب.. فلمّا أقدم على ذبحه، وكانت محبّة الله أعظم من محبّة الولد، خلصت الخلّة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبقَى في الذّبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنّما هي في العزم وتوطين النّفس عليه، فقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفُدى الذّبيح، وصدّق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرّبّ جلّ علاه. فلا ريب أنّ الذّبيح كان بمكّة ولذلك جُعلت القرابين يوم النّحر بها كما جعل السّعي بين الصّفا والمروة ورمي الجمار، تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمّه عليهما السّلام وإقامة لذِكر الله تعالى. ومعلوم أنّ إسماعيل وأمّه هما اللّذان كانَا بمكة دون إسحاق وأمّه، ولهذا اتّصل مكان الذّبح وزمانه بالبيت الحرام الّذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل وكان النّحر بمكة من تمام حجّ البيت الّذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السّلام، زمانًا ومكانًا. ولو كان الذّبح بالشّام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنّحر بالشّام لا بمكة. ومعلوم أنّ هذا الامتحان والاختبار إنّما يكون قد حصل عند أوّل مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأوّل، بل لم يحصل عند المولود الآخر من عدم مزاحمة الخلّة ما يقتضي الأمر بذبحه وهذا في غاية الظهور.