طبعا الرد على هذا السؤال يتوقف على الموقع الذي نوجد فيه. فإذا نظر للأمر من منطقة قمة الهرم والدوائر الملحقة بها فإن الأمر يكون أن هذه النخبة، أو لنقل الموجودين في موقع النخبة،"يعانون!" الأمرين من حال المجتمع ومما تطرحه من عوامل ركود وتكلس. أما إذا نظر للأمر من منطقة أخرى غير قمة الهرم، خاصة من "الثقافة الإنشقاقية التحتية" التي تتعارض مع لغة النخبة تعارضا صارخا فإن الأمر يتجه في اتجاه تحميل السلطة والنظام مسؤولية الوضع ومسؤولية الحال الذي يوجد عليها المجتمع. أقول هذا عطفا على ما جاء في مقال الأسبوع الماضي، وأضيف توضيحا أنه ينبغي القول أن هناك نظرتين في محاولة فهم الوضع وأسباب العطل فيه: نظرة يمكن وصفها بأنها متشائمة، تقول إن المجتمع هو سبب العطل، فحتى السلطة العاجزة فيه والقائمة على الهيمنة وعلى الاحتكار هي نتاج هذا المجتمع، وبالتالي ينبغي الاستثمار في"إصلاح المجتمع" قبل التفكير في أي تغيير آخر. وهناك نظرة أخرى، يمكن وصفها بأنها متفائلة، وهي تقول إن العطل هو عطل نظام الحكم وأن العطل الذي يظهر عليه المجتمع ونخبته وقواه المختلفة سببه نظام الحكم، وبالتالي ينبغي الاستثمار في اتجاه"إصلاح نظام الحكم" لأن ذلك شرط لا مندوحة منه لإصلاح المجتمع وتحقيق النهضة السياسية والثقافية للمجتمع. لكن ينبغي القول أن مثل هذا الجدل العقيم هو جدل نخبوي بامتياز. لأن المجتمع، عن وعي وإدراك كامل أو بالحدس الشعبي العادي فإنه حزم أمره واعتبر أنه لا ينبغي الاعتماد كثيرا على السلطة وحتى على الدولة. لكن ينبغي القول أن التحجج ب " أمراض المجتمع" وأزماته المختلفة وتخلفه الثقافي والذهني هو تحجج كثيرا ما يندرج في"عقدة قصور النخبة" وعجزها على إبداع حلول كفيلة بالانتقال من الوضع القائم. يمكن أن نسجل مثلا، وذلك جاءت الإشارة له في المقال السابق في محاولة إيجاد حال شبيهة للحال التي نعيشها اليوم، وهي حال المجتمع الجزائري وقواه السياسية سنة 1953، وهي كانت تعيش ، أحزابا وإدارة كولونيالية، نوعا من العطل والركود. ورأينا ما هو الحل الذي أنتجه المجتمع الجزائري بمبادرة مجموعة من نخبته السياسية لم تكن طرفا من الأطراف الأساسية وتمكنت من كسر ذلك الركود، وكان المجتمع في حال من التخلف لا يمكن مقارنتها بحال اليوم. والكثير يضيف هنا عنصرا في ذلك التحليل وهو" الروح الوطنية" والتي تقوى طبيعيا في مواجهة الأجنبي. في كل الأحوال ما يمكن اليوم استنتاجه منطقيا هو أن البلاد جربت، منذ الاستقلال عن الاستعمار في شكله القديم، تقييد المجتمع وانتهت للوضع الذي عرفناه والوضع الذي يترآى أمامنا اليوم، والذي لم يجرب هو تقييد السلطة وتحرير المجتمع. فالسلطة بكل ما كان لديها من حرية تصرف في مقدرات البلاد وثرواتها لم تحقق ما وعدت به، سواء الاشتراكية والعدالة الاجتماعية أو الحرية والديمقراطية والحداثة والعصرنة. لقد حققت غاية واحدة هي غايتها هي فقط، أي استمرارها في السلطة. فعلى الرغم من الثروات الطائلة التي كانت في غالب الأحيان بيدها وتحت تصرفها إلا أنها لم تتمكن من الوصول إلى حلول لا لمشاكل السكن ولا لمشكل التعليم ولا لمشاكل الأمن ولا لمشاكل الاقتصاد والعمل. ملايين الشباب من دون تعليم حقيقي يتسرب من المدارس إلى الشوارع وملايين البطالين، والذي يروج اليوم أكثر من غيره هو أخبار الفساد التي تعج بها الصحف والتي تحمل أرقاما فلكية بآلاف المليارات المؤلفة وغير ذلك كثير. لماذا إذا لا يتم اللجوء لتجربة جديدة وهي إعادة المسؤولية للناس، أليست السيادة للشعب يفوضها لمن يشاء؟ ذلك ما قالته كل دساتير الجزائر وذلك ما لم يتحقق يوما في الجزائر المستقلة. إن ما نعرفه من تاريخ الجزائر هو: أن قرار نخبة في نوفمبر 1954 بإعادة المبادرة للجزائريين أنتج خروج الاستعمار المباشر. هل ذلك يعني أن الركود والانسداد اليوم ليس له إلا حل ثوري؟ في كل الأحوال يمكن القول بشكل فيه الكثير من الاطمئنان، وهو أن وقت الحل الإصلاحي قد فات وأن السلطة تتلذذ بهيمنتها التي لا تجد في الساحة السياسية من هو قادر اليوم على مقاومتها وتعتبر الوضع أمثل وضع، وهي تحب أن توحي لمن يريد ترديد ذلك أنها نجحت في تفكيك أخطر الجماعات المسلحة بل ودفعها لإلقاء السلاح، وهي اليوم متفرغة وقادرة على مواجهة كل ما قد يظهر من ضغوط، معتمدة على ما توفر من ريع نفطي دوّخ الأصدقاء والأعداء. في السياق نفسه يمكن القول كذلك إنه تم اختبار الحل غير السياسي، أو لنقل الحل الأمني ومع أطراف مسلحة، ورأينا نتائجه المحدودة فلماذا لا يتم اختبار أو تجريب الحل السياسي؟ إن هذه الأشياء مرتبطة ببعضها البعض، فالحل السياسي مرتبط بالضرورة ب" تقييد" السلطة تقييدا سياسيا دستوريا وذلك غير ممكن من دون تحرير المجتمع. ولهذا، وردا على تساؤل هذا المقال، يمكن القول: إن التساؤل عن كون العطل هو عطل المجتمع أم هو عطل النظام ما هي إلا أطروحات تمويه ظلت مستخدمة دائما في حياة السلطة. وهي مسألة تلجأ لها كل التيارات التسلطية الاشتراكية منها والديكتاتورية والدينية. فأيام الاشتراكية كان يقال لنا لا صوت يعلو على صوت الثورة، لأن الناس ليست مؤهلة لإدراك مستلزمات تحقيق مصالحها ومستلزمات إدارة مصالحها تجاه الثورة المضادة والامبريالية والاستعمار الجديد. واليوم يقال لنا أنه لا صوت يعلو على صوت الحداثة وصوت الجمهورية ولا جمهورية ثيوقراطية وأن الناس لا تعرف كيف تصوت وتخطئ في إدراك مصلحتها الحقيقية. أما الإسلاميون والإسلامايون، أو بعضهم، فهم يقولون لنا إن الناس ينبغي لها فقط أن تحترم النص المقدس، ويخلطون ذلك بقراءتهم هم للنص المقدس، وإن حدث أي تعارض بين قراءتهم للنص وبين المجتمع يذهبون للقول بضرورة تقييد المجتمع وضرورة إرغامه على التقيد بقراءتهم هم للنص. ما الفرق بين من يكبل المجتمع ليأخذه إلى الاشتراكية ومن يكبله بحجة حماية الدولة الجمهورية وبين الذي يكبله لكي يضمن له دخول الجنة؟! لا فرق لأن الرؤية التسلطية التي تتحجج بعدم إدراك المجتمع لمصالحه هي نفسها مهما اختلف التبرير الإيديولوجي. إن التلاقي الحاصل بين نخب متنوعة المشارب ظاهريا، قد يفسر إما بكون السلطة تدفع عناصر من أنصارها لاحتلال مواقع أو مدارس فكرية حتى لا يتم التعبير فعلا عن أي مدرسة فكرية وبشكل حر، وإما أنه تلاقي بين رؤى تسلطية تؤمن بتقييد المجتمع لصالح فعل نخبوي قاصر. لهذا فإن حكايات العهدة الثالثة والحديث الإعلامي من حين لآخر عن " خلافات" بين أصحاب القرار تدخل في باب الهروب إلى الأمام وليس في باب البحث عن الحل. إن الحلول التسلطية أدت إلى إفراز أزمات تلو الأزمات أو لنقل أنها لم تتمكن من حل أي أزمة، وظلت تهرب من الأزمات بمزيد من التأزم ومزيد من التسلط. ولهذا فإذا كان الجزائريون ومصيرهم يهم من اختاروا حتى اليوم الحلول التسلطية فإن الطريق واضح، لنمشي في طريق تحرير الناس وتقييد السلطة. ولكن ما الذي يعنيه هذا الكلام؟ ببساطة الطريق واضح إلا لمن أراد أن يكون في وضع " نكتة الحفرة"! وما هي نكتة الحفرة؟ النكتة تقول: خرج ثلاثة من مسؤولي البلاد الأساسيين ذات ليلة للفسحة بعيدا عن زحمة المرور، وإذا بهم يمرون بشارع يسيرون فيه لأول مرة طبعا، فوجدوا به حفرة كبيرة واسعة وعميقة. فطلب الرئيس منهم التوقف وصار يلومهما.. لماذا هذه الحفرة هنا في هذا الطريق هل فكرتم لحظة لو أن مواطنا كان في سيارته مع أسرته ووقعوا ذات ليلة مظلمة في هذه الحفرة، ستكون الكارثة. ينبغي إيجاد حل والآن. فاقترح رئيس الحكومة: نضع سيارة إسعاف جنب الحفرة فإن سقط أحدهم في الحفرة نقلناه بسرعة للمستشفى. فصاح الرئيس: هذا ليس حلا، سيارة إسعاف واحدة غير كافية. تصور أن عدد ضحايا هذه الحفرة كان ثلاثة أو أربعة. لا هذا ليس الحل. وهنا تقدم رئيس المجلس واقترح قائلا: الحل هو أن نبني مستشفى جنب الحفرة!! فصاح الرئيس. هذا ليس الحل. بناء مستشفى يتطلب اعتمادا ماليا ويتطلب سنوات من الإنجاز. ونحن في حاجة لحل آني. ونظر الإثنان للزعيم وكأنهما يسألانه وما الحل؟ وفهم ما ينتظرانه وقال: الحل أن ننقل الحفرة جنب المستشفى!! إن التشابه بين ما توحي به هذه النكتة وواقع حال تصرف أصحاب خيار الحلول التسلطية كبير. مثل هذه الحفرة ضاعت فيها مليارات الدينارات والدولارات ورميت فيها ذمم وضمائر وضُيِّعت في غياهبها مصائر. الحلول واضحة ولكن وبشكل غير منطقي وبتصرف تسلطي يتم دائما العمل على تفادي الحل الحقيقي وتضييع الوقت على الجزائريين فيما تبدد الثروات وتتحول المصانع لخرداوات تباع لبارونات بدينارات وتمنح لهم المليارات من أجل " التكفل!" بهذه الخرداوات لتتحول مع مرور الأيام لأدوات هيمنة وسيطرة وأدوات شراء الذمم والضمائر، وذلك إلى غاية أن تجد البلاد " حلا لائقا" لمشكل الحفرة (!!)