يصر الأستاذ الجامعي والناقد في علم الاجتماع، أحمد شنيقي، على ضرورة تحديد مفاهيم السلطة والنخبة مكيفة مع الوضع السياسي والاجتماعي الراهن في الجزائر، مركزا في تعريفه على إشكالية النخبة المثقفة في تكوينها، ودورها بعد الاستقلال في الترويج لمختلف الخطابات السياسية، متناسية بذلك دورها المحايد في التتبع ومساءلة قضايا الحال وكذا وظيفتها في الإنتاج المعرفي. ماهي مكانة النخبة في الجزائر؟ بداية يجب تحديد مفهوم النخبة، ماهي النخبة؟ الحديث عن النخبة في بلدنا يثير العديد من الإشكاليات. بداية من المصطلح في حد ذاته، معقد، مشوّه وله أصداء عدة. هل من العملي استعمال مصطلح النخبة في المجتمعات التي تعاني من التشذي منذ قرون طويلة؟ هل من الاصطلاح إستعارة التعريف العام المشتق من اللاتينية الذي يعني مجموعة من المنتخبين، لكن هنا ستطرح قضية التعسف التي تميز عملية انتخاب هؤلاء الأشخاص المنحدرين غالبا من طبقة الأسياد (النبلاء) أو استعارة التصنيف المقترح من طرف أفلاطون في ''الجمهورية'' الذي يعتبر الفلاسفة، النخبة المفكرة في مجتمع أثيني غير متكافئ بامتياز وجد طبقي عكس الخطاب السائد. في هذه الحال، فإن مصطلح النخبة محل تناقض عسير، نوع من الفضاء البعيد عن الدوائر الشعبية ومجلسا ضعيفا أمام اللعبة الديموقراطية، يؤمّن إدارة الشؤون أو يمارس تأثيرا ما في دوائر السلطة السياسية. حتى النخبة منذ ذاك، لم تكن تعني سوى تعبير مجموعة سائدة ومؤثرة. وانطلاقا من هذه المسألة المحورية، يمكن التساؤل عن وظيفة ''المثقفين'' في فترات الأزمة التي عاشتها الجزائر، التي تعرف منذ سنوات طويلة حالات تراجيدية، حيث طغت المواقف الإثنية، الجهوية والاستقلالية على حساب رؤية وطنية، لتعزل مرة أخرى فكرة فرحات عباس وموريس توريز في ''الأمة الجزائرية'' في طريق التشكل أو غير واضحة. ليس من الاصطلاح الحديث عن وضع ''المتعلمين'' و''المثقفين'' اليوم بتجنب الدخول في تاريخ الحركة الوطنية والاستعمار. يجب أن نعلم أن أهم التكوينات المثقفة ''العصرية'' التي ظهرت أساسا في بداية القرن العشرين، أهلت للعمل لقطيعة ابستومولوجية تسببت في ظهور ملامح جيدة، علاقات جديدة وخطابات جديدة غالبا ما أثارت نوعا من القطيعة بين النخب. لكن وفي صورة متناقضة، ظهرت خلال هذه الفترة من بداية القرن العشرين التكوينات السياسية الجزائرية الأولى ''العصرية''، التي شكلت الأجنة الأولى للأنتليجانسيا، وأولى النصوص الرومانسية والمسرحية... هل يمكن تحديد العلاقة التاريخية بين النخب والفئات الشابة؟ أجل، معرفة التاريخ تفيدنا في تحديد ما نسميه إجماعا اليوم ب ''النخبة المثقفة''. كل شيء بدأ مثل شيء ''العقبة الأصلية'' جملة رائعة لعالم الاجتماع التونسي محمد عزيزة الذي سمح ربما باكتشاف الغيرية، التي فرضت بقوة لكنه لم يتم تبنيها في علاقة التبادل، متسببة بذلك بالعديد من الشرخات الفظيعة. هكذا فرض على الجزائريين رغما عنهم قبول إعادة إنتاج الأشكال المختلفة للنماذج الأوروبية في ظل محطات تاريخية عرفت حالة ضعف كبير، مجبرين إياهم التخلي عن نماذجهم الشخصية. تعتبر الغيرية مثلها مثل اللهجة، وليدة علاقات القوة. كان المغاربة يكتشفون بفجع الغيرية سيما من النخبة الذين سيصبحون فيما بعد كتابا، مؤرخين، فنانين، وسياسيين، كانوا يكتشفون مهمتهم الغامضة، وبأنهم قد حكم عليهم باستعمال لغة وشكلا لا ينتمون إليه عن اعتقاد. إنهم تأثروا سياسيا واجتماعيا، لدرجة أنهم وجدوا أنفسهم قد ابتعدوا عن مجتمعاتهم التي كانت في البداية تعج بأغلبية ساحقة من الأميين. ليس من باب الصدفة أن أحد شخصيات كاتب ياسين في روايته ''نجمة'' تجرأ للتلميح بهذه النتيجة المؤلمة: ''كل كلمة فرنسية كنت أتعلمها، كانت تبعدني أكثر عن أمي''. اليوم، كل المجتمع الجزائري يعيش أزمة كيان، هذه المعاناة ليست محدودة فقط عند الشباب الذين يعانون أكثر وبصورة واضحة، تبرز مأساتهم وتفرز معاناتهم، لقد فقدوا مرجعياتهم، أقصوا من فضاء العمل ومرشيين من طرف الحكام، الذين غالبا ما يستعملون خطابا مترفعا، متهمين إياهم بمسؤولية الآلام التي يعانون منها. لقد أثار الخطاب الأخير للأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، ووزير الشؤون الدينية بخصوص الانتفاضات الأخيرة، الاستفزاز. يحملنا لدرجة القول إن هذين المسؤولين يعيشان في بلد آخر. سأتحدث هنا عن النخب المثقفة. المثقفون يعملون ويحللون طريقة عمل هؤلاء الشباب دون اللجوء إليهم، لكن يحدث أن يأخذوا على عاتقهم أحيانا مسؤولية مساندتهم في مبادراتهم الإيجابية وإبراز تطلعاتهم، حقيقتها وانشغالاتهم. المثقف ليس جنديا. لكننا في وطن حيث البعض أو الآخر يريد أن يجعل منه كذلك، أو أسوأ من ذلك، رجل مطافئ. وهذه ليست وظيفتهم على الإطلاق. كل شيء يتمحور حول المعرفة والعلم، لكنه لا يقصي بتاتا مسؤولية تاريخية واجتماعية ما. ماهي توجهات هذه النخبة؟ إن كنت تتحدثين عن النخبة المثقفة، سأقول إنها لا يجب أن تتحدد عن طريق علاقة أو خطاب الحكام، ولا مع خطاب المعارضة. يجب أن تأخذ موقفا نقديا، استقلاليا، لأن التحيز حيال خطاب الحكام أو المعارضة، سيجعله حبيس خطاب أحد الطرفين. وبالنسبة لي، ولاستعمال تعريف سريع وعام، سيكون المثقف ذلك الشخص الذي ينتج معرفة. والجامعي ليس بالضرورة مثقفا. أن تكون أستاذا جامعيا لا يعني بالضرورة أنك مثقف. على أية حال، يكفي فقط الالتفات لظاهرة السرقات العلمية التي نشهدها في العديد من رسائل الجامعيين، التي تجعلنا مرضى. صحيح أنه في كل المجتمعات، هناك أقليات عاملة تصنع المعرفة وتؤثر بقوة في المجتمع. كيف تتعامل السلطة مع النخبة؟ تطرح مسألة السلطة إشكالية تعريفها. عن أي سلطة نحن بصدد الحديث؟ أنا أفضّل الحديث عن الحكومة التي طالما اعتبرت المثقفين عندنا مثل ممثلين للخطاب الرسمي، بدءا بحزب الشعب الجزائري ومختلف هياكل الحركة الوطنية وما بعد الاستقلال. في سنوات السبعينيات تخلى الجامعيون، الكتاب، الفنانون عن وظيفتهم كمسائلين، منتجين للمعرفة لتبني مهمة الممثلين والمروّجين للقرارات الحكومية (الثورة الزراعية، التسيير الاجتماعي للمؤسسات...)، وهو مرفوض تماما. قبل الاستقلال كان ينظر إلى المتعلم بتشكيك وكانت الحكومة المؤقتة بقيادة فرحات عباس أو بن خدة، يسيطر عليها بغرابة فئة من غير المثقفين، حتى بعد الاستقلال حيث كانت العديد من الهياكل مسيرة من طرف هؤلاء الناس ذوي الثقافة المحدودة. ومنذ الاستقلال، أنتجت السلطة ''مثقفيها''. في سنوات الستينيات حربي، زهوان، بودية، بوعزيز وآخرون الذين دافعوا عن فكرة المثقفين في خدمة البناء الاجتماعي وخطاب الحزب الواحد. في سنوات السبعينيات، أطلق ''الباغس'' كذلك ''مثقفيه'' في حملة لنشر الخطاب السياسي لبومدين. وأصبحوا بهذه الطريقة كمثقفين عضويين تابعين لحكومة تلك الفترة. مثلهم في ذلك مثل لشرف، رضا مالك وآخرون. اليوم، تلجأ الحكومة الحالية إلى ''كتابها'' من اتحاد الكتاب الجزائريين، وآخرون مثل واسيني لعرج، بوجدرة، بقطاش، حمدي، ميهوبي، أو لرجال ونساء من المسرح أو السينما، مثل بن قطاف أو راشدي، وذلك للدفاع عن خطابها. باستفادتهم من الدخل، وترسيمهم مسؤولين على لجان رقابة، لجان تحكيم، مهرجانات أو على المكتبة الوطنية. من الطبيعي أن يكون للسلطة مثقفيها. لن نسمع منهم أبدا ردود أفعال حيال الرقابة الممارسة (سيما من طرف وزارة الثقافة) أو حيال تجاوزات البعض والآخر. ما هي قراءتك للانتفاضات الأخيرة للشباب عبر العديد من الولايات؟ الأعمال التي قام بها الشباب ليست محدودة كما نعتقد، بل تعبر عن حالة من اليأس التام. هي ليست بعمل تلقائي، بل نتيجة كبت، ورفض واع تم التعبير عنه في الوقت المناسب. هل تساءلتم لماذا تضامن معظم الجزائريين مع التونسيين؟ يجب على الحكام أن يفهموا الرسالة بدل تجريم الشباب. المشكل أعمق وأعقد من ذلك. القضية ليست قضية زيت أو سكر. بل إنهم يطرحون بطريقة عشوائية المسائل الحقيقية، طريقة للإعادة إلى الواجهة قضية هياكل الدولة المستحوذ عليها والمخوصصة. ما فاجأني هي ردة الفعل المتعجرفة للحكام، الذين لم يفهموا أنه يجب الآن لتفادي التجربة التونسية، والبدء بإصلاحات لا تمت بصلة للخطاب النيوليبرالي المتحول، بفتح الإعلام والحقل السياسي، والقيام بانتخابات حقيقية وتشكيلة متكافئة تسمح للبلد بالتسلح بمجالس ممثلة. نحن بحاجة إلى نقاش عام ضروري. فكل الأنظمة الاستبدادية انتهت كلها بشكل مأساوي. ربما حان الوقت اليوم أن يكف الوزير أو الوالي باعتبار أنفسهم بالأنبياء. بل مجرد منفذين يخشون ارتكاب الخطأ وعدم اتخاذ القرارات إلا بعد تخمين ناضج، خشية أن يعاقب من طرف الرأي العام أو منتخبيه. ألم يحن الوقت بعد أن تلغى تعيينات المسؤولين هذه التي تتم وفق اعتبارات زبونية، قبلية وعائلية وبدوية، وأن يتوقف المسؤولين عن معالجة أنفسهم في الخارج، في حين أن المستشفيات عندنا أصبحت أماكن للاحتضار؟ يجب إعادة النظر في كل شيء. وفي حال ما إذا لم تفهم الرسالة بعد، يمكن للانتفاضة السابقة أن تكون فاتحة لانزلاقات خطيرة، وانتفاضات أهم من تلك التي سبقت. ما حدث -مؤخرG- هو تعبير عن حالة اليأس، عن بؤس كبير، نداء للمواطنة، يعني أنه لا يجب أن يكون هناك ناس غير متساوين مع آخرين. ببساطة، تغيير نظام الحكم. من الطبيعي أن يلجأ الشباب إلى العنف حين لا نصغي إليهم، كل النفسانيين يعرفون ذلك. ومع ذلك نسمع بأن الأمر مجرد مضاربات، لماذا هذا التهرب المستمر؟ التراجع عن الفواتير، والسجلات التجارية والصكوك سابقة خطيرة. يجب أن يعرف هؤلاء الحكام، على قول بريخت، أنه لا يوجد شعب للاستبدال. شيء آخر حين تخلط وزيرة الثقافة، وليست الوحيدة، بين الحكومة والدولة. يجب إنهاء تخصيص الدولة، والأمر ليس بالهين.