يذكّرك كل شيء في الجزائر بالتاريخ، وإن لم تنتبه فإنك حتما ستجد، وبسهولة، ما أو مَن يذكرك به، قد يكون اسم شارع أو حجر تذكاري أو قد يكون بائع خضار أو سائق سيارة أجرة أو عامل تنظيف، وليس شرطا أن يكون قد عاش هذا التاريخ فعلا. إننا نستطيع أن نصف العودة إلى التاريخ في الجزائر - على مستويات عدة في غالب الأوقات - بالإرتداد القوي والعاطفي والعنيف لبعض الأحداث فيه فقط. قد تكون اللحظة الراهنة، تحديدا، لحظة غير مناسبة جدا للتأمل والتفكير في تمثّل الجزائريين شعبا ومؤسسات سياسية ومثقفين للزمن وللتاريخ، وقد لا تكون مناسبة أكثر للنداء بتجاوز الثورة التحريرية على مستوى الكتابة والتحليل والنقد لكتابة وتأريخ ما بعدها وما قبلها. يُعنون محفوظ قداش الذي يعد من أهم المؤرخين الجزائريين، أحد كتبه الصادرة بالفرنسية والذي يتناول حرب التحرير ب “Et l'Algérie se libéra" “وتحررت الجزائر". هذا العنوان يُوحي دون شك بالارتياح العميق والانفراج لكنه يوحي أيضا بنهاية الحكاية، أو كما تصفه المؤرخة مليكة رحال بنهاية تاريخ يجعلنا أمام حاجز كبير لتدوين تاريخ الجزائر المستقلة. أنظمة الواقع بين يدي كتاب حول حصيلة الجزائر بعد الاستقلال، أنفق قليلا من الجهد في فهم الكتاب الذي يستعرض التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الجزائر وأنفق ضعف هذا الجهد في التركيز على السطر الذي أقرأه كي لا يضيع مني كلما دخلنا منعطفا أو قرر السائق أن يتجاوز سيارة أخرى. داخل هذه السيارة الصفراء السريعة جدا الكل هادئ ومستغرق في الاستماع إلى الموسيقى أو تفحص جريدة. كالعادة، أو كعادة الجزائري يبدأ التذمر وينتشر كفيروس نشط كلما كان الوقت متوفرا، كدت أجزم أن التذمر في الجزائر كالمزاح أو كتبادل النكت أو كأي شيء آخر نفعله لملء أوقات فراغنا. في الخارج لم تتوقف الأمطار، وفي الداخل لا يبدو أن التذمر يتقدم نحو شيء ما، على يساري كهل تبدو عليه آثار العلاج الكيميائي، يحمل ملفا طبيا كبيرا، يقول مساهما في السخط على الأوضاع: “في عهد الاستعمار كان أقرب مستشفى كبير إلينا يبعد ثلاثمائة كيلومتر، بعد الاستقلال بقي أكبر مستشفى يبعد عنا بنفس المسافة، الذي تغيّر هو أن فرنسا وألمانيا طورتا سيارات توصلنا أسرع قليلا إلى المستشفى نفسه، ولم نحسّن نحن الطرق ولا استطاعت دولتنا أن تبني لنا مستشفى كبيرا أقرب، هذا ما حدث خلال خمسين سنة". كان الرجل يائسا تماما وفكرتُ أن “الجزائر كبيرة بما يكفي كي تضيّع فيها أملا صغيرا"، استرسل شاب عاصمي يجلس في المقعد الخلفي في شرح توسع العاصمة وكيفية تسييرها والاكتظاظ والزحمة، وبدا هو الآخر رغم حداثة سنه غير متحمس لشيء، حاولت أن أقول شيئا إيجابيا أو أنبهه إلى أشياء جميلة، لكنه بدا مستميتا في “ما" ه، فكرت أيضا أن “العاصمة مكتظة وضيقة بما يكفي لتخنق قدرتنا على الحلم". لا أريد، وحتى إن أردت فلن أعرف كيف أشرح بشكل دقيق كيف ضيَّع الجزائري قدرته على عيش الراهن، كيف يولد حاضره في المستقبل ويموت شهيدا في الماضي سريعا، وكيف ينقلب الحديث بشكل سريع عن المستقبل إلى حديث عن الماضي؟ ينطق آخر ليس بأحسن مما نطق به الأولون قائلا: “أتعلمون ما نجحنا في صناعته في خمسين سنة ؟« دون أن يتيح لنا التفكير، قال وهو يشعر بفخر: “إنه Système D« لا أدري من أين أتى شعوره بالفخر، من قدرته على تلخيص خمسين سنة أم من أهمية الاكتشاف نفسه، حرف D هذا يعني Dépanage، حسبه. بذلت جهدا في شرح المشاريع الكبيرة التي قامت بها الجزائر في الفترة الأخيرة من سدود ودعم للشركات الصغيرة والمتوسطة ومن الطريق السيّار، أضحكني ردّه: “نعم انتقلنا من Système D إلى Système HD" لم يكن الأخير نظام الدقة العالية بل نظاما أكثر محلية، حسبه. يعجّ البلد في هذه الأيام بكل أنواع الاحتفال بخمسينية الاستقلال، أقيمت الكثير من المؤتمرات والمحاضرات والعروض السينمائية ونُشر أو أُعيد نشر العديد من الكتب والشهادات. الكثير من المنشيتات واللافتات على مداخل وفوق مباني المؤسسات العمومية، استوقفتني بشكل خاص اللافتة المضيئة فوق أهم مباني الجزائر العاصمة، مبنى الإذاعة الوطنية بشارع الشهداء، بخط كبير ومضيء كتب: “50 سنة وما أدراك ما الجزائر". بغض النظر عن ركاكة التعبير وابتذاله، فإن هذه المقابلة بين خمسين سنة كزمن متدفق والجزائر كجغرافيا ثابتة تعطينا انطباعا بأن احتفاظ الجزائر بالاستقلال لمدة خمسين سنة هو الإنجاز الأهم في نصف القرن الذي مضى، وبذلك تأتي كل اللحظات اللاحقة ل 1962 كلحظات مغذية لها وأقل اكتمالا وجوديا منها. يقودني هذا إلى أن أسأل سؤالا مهما في نظري وهو أين تقع الحدود بين الماضي والحاضر في المتخيل الجمعي بصفة عامة وأيهما تجسيد للآخر أو إعادة إنتاج له؟ ويقودني هذا حتما إلى التفكير في علاقة المجتمعات بصفة عامة، وعبر علمائها ومثقفيها بصفة خاصة بالزمن والتاريخ؟ كثير من التحاليل التي تفسر علاقة الحركات الإسلامية بالزمن تقول إن تمثلها له دائري، حيث أن لحظة الاكتمال التاريخي هي لحظة في الماضي وأنه لبلوغ هذا الاكتمال يجب العودة إليه أو إعادة إنتاجه في الواقع، من المؤكد أن هذا يحتمل جزءا كبيرا من الحقيقة ومن المؤكد أيضا أنه لا يمس فقط بشكل خاص الحركات الإسلامية في المجتمعات المسلمة ولا هذه المجتمعات بصفة خاصة، بل أغلب المجتمعات التي مرت بتجارب مماثلة. ما أريد أن أثيره هنا هو مدى تأثر المثقفين، المؤرخين وعلماء الاجتماع بشكل خاص بهذه المجتمعات وهذه النظرة إلى الماضي، ما يهُمنا هنا طبعا هم نُخب الجزائر المثقفة وعلاقتهم تحديدا بالثورة التحريرية، بتعبير آخر إلى أي مدى يتمثل المثقف أو المؤرخ الجزائري الثورة التحريرية كحدث مكتمل يستحيل تجاوزه؟ وهل هذا هو بالضبط ما جعل تجاوز مرحلة الاستعمار بصفة عامة والثورة التحريرية بصفة خاصة إلى ما بعدها من مراحل الاستقلال وإلى ما قبلها من فترات أخرى أمرا غير سهل تماما على مستوى التأريخ والدراسات والبحث. في مقابلة لي مع الأستاذة فاطمة الزهراء قشي، أستاذة التاريخ بجامعة قسنطينة، والتي انتقلت من البحث في فترة الاستعمار الفرنسي إلى الفترة العثمانية، أجابت عن سؤالي حول هذا الانتقال، فقالت إنها زيادة على بعض الأسباب فإن شعورها بعدم إمكانية القراءة النقدية لهذه الفترة كان أحد أهم هذه الأسباب... إننا نستطيع أن نسمي أشكالا صلبة كل ما وُجد في الماضي من أحداث “مكتملة" غيرت اتجاه التاريخ أو كانت عنصرا حاسما في تغييره تتم العودة إليها أو الارتداد نحوها بعنف أو بحماس شديد كلما كان الواقع هشا وضعيفا. أي أن جزءا من الحفاظ على وحدته واكتماله وتناغمه وعدم وجود التناقض فيه هو حاجة تفرضها هشاشة الحاضر غير المكتمل والمتناقض. كنتُ قد سألت الأستاذ رائد بدر، أستاذ التاريخ بجامعة بئر زيت بفلسطين، قبل أيام في حديث جانبي عن تعريف الكثير من المجتمعات والدول لأنفسها عبر مرحلة الاستعمار أو حرب التحرير، فكان أن لاحظ وجود تصرف مماثل عند بعض المؤرخين للتاريخ الإسلامي في الاهتمام جغرافيا بالأندلس على سبيل المثال، ومن ثمة استدعى الأستاذ رائد بدر مفهوم قسطنطين زريق للتاريخ العبء والتاريخ الحافز، ملاحظا أنه يصعب كثيرا الاهتمام بالتاريخ العبء الذي هو في حالة الجزائر كل الفترة الاستعمارية عدا فترة حرب التحرير وتكون الأخيرة التاريخ الحافز الذي يشجع على الدراسة والتأريخ والتحليل. إن أحد أهم حقول البحث القادرة على الإجابة عن كثير من التساؤلات في هذا الخصوص، هو التاريخ الثقافي للجزائر المستقلة الذي يُعد في نظري متاحا أكثر من غيره، ويعد البحث في تاريخ المثقف أو تاريخ النخب المثقفة، هذا الاختصاص الذي ظهر في سنوات الستينيات وتطور كثيرا في سنوات الثمانينيات في فرنسا، واعدا للإجابة عن كثير من الأسئلة، فخلافا عن أن دراسة المثقفين الجزائريين تمنح الفرصة لإلقاء الضوء على طرق إنتاجهم للمعرفة وللتحاليل وعلاقاتهم بالنظام السياسي، بالمجتمع وباللغة وتمثلاتهم للزمن وللتاريخ التي تؤثر في هذا الإنتاج بلا شك، فإنها تحاول تقديم قراءة للنظام السياسي من خلال ردود فعل الأخير وعلاقاته بهذه الطبقة. إن تأملا أوليا يقودنا إلى أن مشروع نخبة مثقفة في الجزائر أجهض مرتين بعد الاستقلال “يطول الحديث ودعم هذه الفرضية محل بحثي الآن"، مرة في سنوات السبعينيات في ظل الحزب الواحد والفكر الواحد والشعبوية الكبيرة، ومرة في سنوات التسعينيات بسبب الأزمة الأمنية العميقة، مما يجعلنا نعتقد بتأمل بسيط لمسارات المثقفين الجزائريين بعد الاستقلال وإلى يومنا هذا بشيء ميّز المثقف الجزائري طوال هذه الفترة، وهو البحث دائما عن حلول فردية، كالصمت أو الهجرة أو الانتحار... إن هذا الإجهاض هو الذي ساهم في امتلاك المؤسسات السياسية والفاعلين في التاريخ في تقديم قراءاتهم للتاريخ وليس شهاداتهم فقط، ما جعل إنتاج خطاب حول التاريخ مقتصرا على المؤسسات السياسية للدولة. إن الحاجة اليوم لتوفير الشروط لولادة نخبة مثقفة وتكوّن مثقفين قادرين على إنتاج خطاب جديد غير مستورد من الغرب أو من الشرق وعلى التحليل والتفكير في تغيرات الجزائر العميقة، تبدو ملحة أكثر من أي وقت مضى، غير أن غياب سياسة ثقافية لدولتنا وتمييع الوسط الجامعي وإثقاله بأعداد كبيرة جدا من الطلبة وغياب فضاءات النقاش الحقيقي تدفع الأمور في غير اتجاهها الطبيعي أو المفروض وتجعل الجزائر تتجه نحو أزمة جديدة عوض التفكير في الأزمات الماضية.