تكشف "التعليمات" المرسلة إلى الولاة والتطمينات المقدمة من طرف الوزير الأول للشركاء الاجتماعيين وأرباب العمل، والإجراءات المتخذة لتلطيف الأجواء قبل شهر رمضان، أن السلطة تعيش حالة من القلق جراء استمرار غياب رئيس الجمهورية وعدم بروز نهاية في الأفق لحالة "الركود" التي بدأت تنخر سير مؤسسات الجمهورية. وتأتي مسارعة الحكومة للمبادرة بعدة تدابير توصف معظمها ب"الشعبوية" لتبريد أعصاب الجبهة السياسية والاجتماعية، لتؤكد أن السلطة تريد ممارسة "التنويم المغناطيسي"، على الأقل في فترة "الفراغ الدستوري" على حد تعبير موسى تواتي، التي تولدت عن مرض الرئيس، وذلك حتى يسهل عليها التفكير في الحسابات والتكتيكات التي يتطلبها الاستحقاق الرئاسي في الأشهر القليلة المقبلة. وصايا للولاة وتدابير اجتماعية وثلاثية في سبتمبر الحكومة تراهن على تفادي دخول اجتماعي ساخن دخلت حكومة سلال في سباق ضد الساعة لتفادي الألغام المتولدة عن تراكمات المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، في مسعى لكسب هدنة اجتماعية تسمح لأجهزة الدولة من تسيير فترة غياب الرئيس بعيدا عن التوترات السياسية التي قد تعصف بكل الحسابات التي وضعتها السلطة في أجندتها للمرحلة المقبلة. شرع الوزير الأول حيث ما حل وارتحل، في توزيع الوعود والتطمينات تارة للمواطنين الذين اشتكوا من عدم توزيع السكنات الاجتماعية أو بشأن انقطاعات التيار الكهربائي، أو باتجاه الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين الذين وعدهم باستدعاء اجتماع الثلاثية في شهر سبتمبر المقبل لبحث مطالب عالم الشغل وانشغالات منظمات الباترونا. وقبل ذلك أرسل سلال إلى الجماعات المحلية “تعليمات” تدعوهم إلى الحوار مع المواطنين والتكفل بمشكلاتهم ومطالبتهم بتوزيع حظيرة السكنات المنجزة التي تجاوز عددها 177 ألف وحدة سكنية في مختلف الولايات. وحث سلال أعضاء الحكومة والولاة إلى توفير ضروريات الصيام في شهر رمضان داعيا إلى “توفير كل ما يسهل ممارسة العبادة وتقاليد الصيام بما في ذلك وفرة المواد الغذائية”. كما أعطى الوزير الأول تعليمة لولاة منطقة الهضاب العليا للشروع في عملية إعادة بنادق الصيد المحجوزة خلال التسعينات لأصحابها والمقدر عددها ب250 ألف بندقية، وهي المشكلة العالقة منذ عشرية كاملة وكانت وراء احتجاجات مالكيها في عدة ولايات. وتكون الضغوط الكبيرة التي تعمل فيها الحكومة جراء ما تولد عن غياب رئيس الجمهورية الذي يعالج في الخارج منذ شهرين، وراء رغبة عبد المالك سلال في فك الألغام الاجتماعية التي لم تهدأ منذ تعيينه على رأس الوزارة الأولى خلفا لأحمد أويحيى في سبتمبر الماضي. غير أن وجود سلال في واجهة الأحداث، بعد الوعكة الصحية لرئيس الجمهورية، قد جعلته مطلوبا على أكثر من جبهة في آن واحد. إقناع الخارج بأن الجزائر تسير بصفة عادية، من خلال إشرافه على استقبال الوفود الأجنبية الذين كانت زياراتهم مبرمجة منذ زمن بعيد، وتهدئة التوترات في الداخل من خلال اتخاذ تدابير تحفيزية وإعفاءات جبائية لفائدة المؤسسات وعمليات القروض لتشغيل الشباب، رغم أن أغلبها لا يزال حبيس مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2013 الذي ينتظر مصادقة مجلس الوزراء. وامتدت تدابير الوزير الأول في سعيه لتمرير فترة غياب بوتفليقة بردا وسلاما في الشارع الجزائري، إلى المبادرة ببرنامج المدينة التي لا تنام، من خلال تخصيص 5 مليارات دينار، حسب وزير السياحة، لتنشيط موسم الاصطياف، وذهب سلال إلى حد الدعوة لحجز “جات سكي” بالشواطئ حتى لا تجرح شعور الزوالية أو تدفعهم للقيام بانتفاضات في الشواطئ، وكل ذلك في إطار “تنويم” المجتمع وإبعاده عن القضايا السياسية المطروحة بقوة في البلاد. الجزائر: ح. سليمان الالتفاتة المبالغ فيها للجبهة الاجتماعية البحث عن رئاسيات دون ضغط كيف تتفادى حكومة عبد المالك سلال أن يؤثر مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على تحضير الرئاسيات المقبلة؟ إنها معادلة في صميم حسابات الوزير الأول ومن ورائه قطاع داخل السلطة تقضي بتحاشي غضب الجبهة الاجتماعية من أجل تنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها بدل الذهاب إلى رئاسيات مسبقة قد ترتبك معها حسابات الخلافة. بمجرد تأكد فاعلين في دواليب السلطة أن مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لا يتعلق بانتكاسة صحية عابرة بحيث يعود لممارسة مهامه في غضون أيام من بعد نقله للعلاج بباريس، صعد إلى الواجهة تساؤل يتعلق بكيفية الذهاب إلى الرئاسيات في موعدها الرسمي ربيع السنة المقبلة من دون أن يطرح غياب بوتفليقة أي عارض دستوري من جهة وألا يخلف أيضا بروز مشكلات اجتماعية جراء تخلف مراسيم أو قوانين تحتاج لتوصية مباشرة من رئيس الدولة. وتعي السلطة بشكل جيد أن نجاح ترتيباتها للرئاسيات المقبلة رهين بإجرائها في موعدها، دون أن يمكِّن مرض بوتفليقة أحزاب المعارضة من الوصول إلى مبتغاها: وهو أن تكون شريكا على الأقل في التحضير للاقتراع القادم استعمالا لورقة الشارع ربما أو الجبهة الاجتماعية ككل، والأرجح أن حسابات الطرفين هي التي جعلت أحزابا ضمن تكتلات معارضة تنسحب تدريجيا من المطالبة بمادة المانع الصحي “المادة 88” مقابل تقديم لائحة شروط تتعلق بالرئاسيات القادمة والظروف التي يجب أن تحيط بها. إن طول فترة النقاهة التي يقضيها بوتفليقة في باريس أربكت حكومة سلال ومن ورائها مراكز القرار، لذلك كان واضحا أن السلطة انتقلت تحت الضغط إلى المخطط البديل وهذا منذ الموافقة على نقل صور رئيس الجمهورية لدى استقباله كلا الوزير الأول وأحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش. والبديل هذا يعتبر الرئيس بوتفليقة قضية من الماضي وأن الأولوية في الذهاب إلى رئاسيات أفريل القادم دون أن يؤثر أي عامل على الخلافة التي تحظى بالإجماع. هذا العامل يكون أيضا وراء أخذ الحكومة لزمام المبادرة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي الدبلوماسي، بتوجهها صوبا نحو بحث قضايا الجبهة الاجتماعية من شهر رمضان وموسم الاصطياف والدخول الاجتماعي والمدرسي المقبل، ويمكن تصنيف لقاء الحكومة بالولاة وأيضا اجتماع الحكومة القادم في هذا السياق. ويشير مراقبون إلى أن هذه التحركات وراءها دافع واحد هو ترك انطباع بأن مؤسسات الدولة لم تتعطل بغياب الرئيس وأن “الدولة” لما قررت “تسيير” فترة مرض الرئيس هدفه إبعاد كل سيناريو قد يوحي أن عجلة تسيير الشأن العام قد توقفت ما يؤثر مباشرة على الجبهة الاجتماعية القادرة وحدها على إرباك حكومة سلال. الجزائر: عاطف قدادرة المتحدث باسم حركة المواطنة والحريات علي إبراهيمي ل “السلطة ستدفع أي ثمن لصرف النظر عن الرئاسيات” رئيس غائب وشؤون الدولة معطلة، هل تعتقد أن الحكومة قادرة على تسير الضغط الاجتماعي والتحضير للرئاسيات في نفس الوقت؟ - يجب أن ننتبه جيدا إلى أن قضية الرئاسيات هي في صلب تفكير السلطة، وكل سلوك سياسي تقوم به أو إجراء يجب أن يفهم في هذا السياق، السلطة تحاول أن تجر الرأي العام بعيدا عن الرئاسيات، بمعنى أنها تحاول أن تضع الجزائريين في حالة صرف النظر عن الرئاسيات. الحكومة والسلطة غرضهما الوحيد هو صرف الأنظار عن الانتخابات الرئاسية كي يغلقوا اللعبة عن المنافسين الآخرين، وليحضروا السيناريو بهدوء بعيدا عن الأنظار. وحتى مرض الرئيس تعمل السلطة على توظيفه من أجل صرف الأنظار عن أي مطالبات سياسية للمعارضة الجزائرية الشرعية، والتحضير لرجل يخلف الرئيس بوتفليقة، والسلطة تريد أن يتم استخلاف بوتفليقة داخل النظام فقط، ربما نحن في عملية تحضير سلال عبر زياراته إلى الولايات حيث يقوم بعرض نفسه. البعض يرى أن وضع السلطة المرتبكة، هو فرصة مثالية للأحزاب والنقابات المعارضة لرفع سقف المطالب والحراك الاجتماعي والسياسي وتحقيق جزء منها؟ - أظن أن الوقت مناسب للمعارضة لا سيما المعارضة الديمقراطية للمطالبة بأن تسير الجزائر إلى اقتراع حر ومسار ديمقراطي وفتح المجال السياسي. على المعارضة أن تعي طبيعة المرحلة وتخرج من حالة الخوف والتردد والانغلاق، وأن تستغل الفرصة لترفع سقف المطالب بشأن الحريات السياسية والمدنية والشفافية في الانتخابات وفي إدارة المال والشأن العام، لا يجب أن تتخندق المعارضة في النقاش حصرا على تطبيق المادة 88 من الدستور، لأنه يظهر أن هذه المادة لا يمكن تطبيقها لغياب ميكانيزمات دستورية، لكن عليها أن تطالب بفتح نقاش عام لمناقشة حصيلة النظام وحصيلة الرئيس بوتفليقة، نحن الآن أمام مأزق سياسي آل إليه النظام، وأوصلته إليه سياسيات بوتفليقة. في ظل هذه الظروف برأيكم، ما هو الثمن الذي تكون السلطة مستعدة لتقديمه من أجل شراء السلم الاجتماعي والمدني مجددا؟ - السلطة ستواصل في سياسة شراء السلم الاجتماعي، ما يهم السلطة الآن أن لا تكون هناك مطالب سياسية تضر بطيعة النظام، أو مطالبات بالشفافية. أما عندما تكون المطالبات اقتصادية أو اجتماعية، فإن السلطة لها ما يكفي من عائدات النفط للمرور بسلام من هذه المرحلة وتلبية أي مطالبات اجتماعية، لكن إلى أين يمكن أن توصلنا هذه السياسة؟ وإلى أي حد يمكن أن تضمن للسلطة الأمن؟ الخطورة في أن هذه السياسة ستوصلنا إلى الانسداد، وأسعار النفط بدأت تنزل، والنظام لا يفكر في الغد، لأنه يملك تفكيرا “مافياويا” مبنيا على “أحييني اليوم واقتلني غدوة” الجزائر: حاوره عثمان لحياني رئيس حزب الفجر الجديد الطاهر بن بعيبش ل "لا يمكن للنظام الاستمرار في رشوة الجزائريين إلى الأبد” كيف تقرأ القرارات التي اتخذتها الحكومة مؤخرا، من خلال دعوة الثلاثية للاجتماع في سبتمبر وعملية إنفاق مالي إضافية رغم الظرف المالي الصعب الذي يعيشه البلد؟ - الحوار شيء جيد فهو كفيل بإيجاد حلول للمشكلات القائمة، ويجب أن تكون للحكومة نظرة شاملة تتجاوز المعالجة الاستعلائية أو الأحادية الجانب للمشكلات. وتوسيع الحوار إلى نقابات ومنظمات أرباب عمل جديدة خطوة جيدة، ويمكن أن يساعد على اقتراح حلول للمشكلات التي تتخبط فيها بلادنا على أكثر من صعيد. أما بالنسبة للإنفاق المالي، فيجب أن يكون الأمر مدروسا، وتوجيه الأموال إلى مشاريع حقيقية لتنتج ثمارها، لكن مواجهة فشل السياسات العمومية السابقة في مجال التنمية لا يكون بالمال وحده، لأن الإجراءات السابقة شابتها عمليات تبذير وهدر للقدرات وعشوائية في اتخاذ القرار. ثم إن أصل الأزمة في الجزائر سياسي، ويجب أن تعالج بطريقة سياسية، واللجوء المتكرر لخزائن الدولة لمواجهة المطالب الاجتماعية المتزايدة لن يعالج أزمات البلد، لأن المجتمع يعيش حالة إحباط عامة تتطلب علاج سليما. وعلى السلطة أن تضع في الحسبان صعوبات المرحلة على المستوى الاقتصادي، في ظل تبعية الاقتصاد الجزائري لمداخيل صادرات المحروقات. هناك قناعة لدى كثير من المحللين بأن العمليات المالية التي أطلقتها الحكومة مؤخرا محاولة أخرى لرشوة الشعب وإسكات الاحتجاجات لضمان صيف هادئ ودخول اجتماعي عادي.. - معالجة مشكلات الدولة لا يرتبط بالظرف كالدخول الاجتماعي مثلا، لأن الإجراءات المعلن عنها مجرد مسكنات، ومهما فعلت السلطة فإنها لا يمكن أن تستمر في رشوة الشعب إلى الأبد، قد تقدر على إسكات غضبه مرحليا وتأجيل المشكلات، ولكن من المستحيل استمرار الحال على ما هو عليه لوقت طويل. هل ستنجح السلطة بهذه الإجراءات في تطبيع الأوضاع وتهيئة الأجواء لإجراء انتخابات رئاسية وفق أجندتها؟ - قد تنجح السلطة في تحقيق نجاح ظرفي، ولكن هذا لا يعالج الوضع، ونجاح تنظيم الرئاسيات لا يكون إلا باحترام قواعد اللعبة السياسية وضمان تساوي الفرص وحماية اختيار المواطن، وشفافية في الاقتراع. وقد اقترحنا إقامة حوار بين السلطة والمعارضة، لأن المعارضة جزء من الدولة وليست نقيضا لها وهي في الديمقراطيات الحديثة طرف في الحل، والصدام ليس قدرا للطرفين، ويجب الاتفاق على أرضية متفاوض حولها لإخراج الجزائر من أزمتها. الجزائر: حاوره ف.جمال