إذا كان عشرات الشباب في المدن والحظائر الكبرى يشتكون صعوبة صيام رمضان هذه الأيام، رغم أنهم لا يعايشون قساوة الطبيعة والمناخ، ويقضون يومهم نائمين وسط المكيفات الهوائية، فإن أمثالهم في ريعان الشباب بالمناطق الداخلية يقضون يومهم الرمضاني الطويل تحت أشعة شمس حارقة وهم يرعون “مال” الناس.. ارتبطت بالأنبياء والرسل الرعي.. مهنة المعاناه والمتاعب والتضحيات لا تكاد الغالبية من الناس تتجاوز النظرة السطحية للراعي، حين ينظرون إليه من بعيد وحوله قطيع الأغنام بخرافها الصغيرة تجري وتمرح على مروج خضراء، يهش عليها بعصاه، فيغبطونه على هذه النعمة، ولكنهم لا يدركون ما وراء هذه المهنة من معاناة ومتاعب وأخطار وتضحيات. ومهنة الرعي التي مارسها الأنبياء منذ عهود غابرة بقيت تصارع الزمن وإن اختلفت في أشكالها فقد حافظت على جوهرها المتمثل في تنمية الثروة الحيوانية لمالك الماشية باعتباره المستفيد الأول، ويتحمّل متاعبها الراعي، لأن مهمته لا تقتصر على السير بالقطعان ناحية الأراضي الخصبة ويتركها تأكل مدة من الزمن، ثم يعود بها إلى مضاربها فقط، بل هو حارسها نهارا وليلا، وهو طبيبها الذي يقوم بمتابعة صحتها وعلاجها، مثلما يقوم بتوليدها، ويتعهد خرافها ويتنقل معها من ولاية إلى أخرى مضحيا بدراسة أبنائه وعلاجهم وتلقيحهم.. الراعي يواجه مخاطر الطبيعة بتقلباتها الجوية في كل الفصول من قر الشتاء إلى حر الصيف، ويواجه مخاطر اللصوص لحماية مال صاحبه في مقابل زهيد، سواء كان من مال أو من ماشية، ولعلها الأسباب التي جعلت مهنة الرعي تتقلص ويعزف عنها الكثيرون، ليصبح الراعي “عملة نادرة” يبحث عنها مالك الأعداد الكبيرة من الماشية والذي يقيم داخل المدينة فيختار من يتوسم فيه الأمانة والصدق والخبرة والمقدرة على تحمل المشاق، وأحيانا حتى المقيم في الريف يحتاج إلى الراعي، حين تكثر ثروته من الأغنام وتكثر تنقلاته ورحلاته تتبعا للكلأ والماء، حيث يتم نقله مع أسرته إلى المكان الذي تتواجد به ماشية هذا الموّال فيبني خيمته ويباشر مهامه بناء على اتفاقية في طريقة تسديد أجرته. طريقة التسديد لا تخرج عن اثنين: إما أن الراعي يتقاضى مبلغا ماليا يتراوح بين عشرين ألفا إلى ثلاثين ألف دينار جزائري شهريا مع تكفله في بعض الأحيان بمصاريف غذائية حين يزوره صاحب المال لتفقد ماله، أو أنه يأخذ عن كل خمسة خرفان خروفا، ولكن بعد عام كامل وميلاد الماشية، وفي هذه الفترة قد يقرضه مالك الأغنام المال للإنفاق على عياله، وبعد أن يأخذ خرفانه يبيع ويقضي ما عليه من ديون، وهو الأمر الذي يفضله الرعاة المتنقلون لأنهم يريدون كسب ثروة من الماشية يضمونها مع ماشية أصحاب الثروة وقد تكبر، ولكن بعد سنوات عديدة جدا. وفي الغالب فإن الرعاة من هذه الفئة الثانية على اختلافهم لا تتجاوز ثرواتهم من الماشية أعدادا كبيرة لأنها تصبح مصدر رزقه وقوت عياله منها يبيع وينفق على عياله أكلا ولباسا ودواء وغيرها من متطلبات الحياة، وحتى الذين يختارون الطريقة الأولى أي تقاضي الأجرة الشهرية فإنها زهيدة لا تكفي متطلبات الحياة ونفقاتها المتزايدة ولا تعكس تلك المهام التي يقوم بها ليلا ونهارا، إذ أن الراعي يفرض عليه الإستعانة بكامل أفراد أسرته لتنفيذ هذه المهام المتعددة من الأكل والشرب والتفقد والحراسة والدواء والتوليد وتربية الخرفان، لأن الغالبية منهم يكلفون برعي مائة رأس فما فوق، وفوق كل ذلك عدم الاستقرار في مكان واحد، حيث يقوم صاحب المال بترحيله من ولاية إلى أخرى في رحلتي الصيف والشتاء، وهنا يصبح جميع أفراد الأسرة يعملون عند صاحب “المال” ولكنهم يتقاضون جميعا مبلغ عشرين ألف دينار فقط، مضحين بالكثير من الأمور في الحياة، ويتعرضون للمخاطر والمتاعب سواء في فصل الصيف أو في فصل الشتاء، إذ أن لكل فصل خصوصيته في العمل، وتزداد المتاعب حين يجتمع الصيام مع حرارة الجو كما وضح لنا بعض الرعاة. ع. ن بورتري بوعبد الله دهيمي.. تجربة 40 سنة في الرعي ”تحمّلت الإهانات في الصغر وراض بما أعطاني ربي” الساعة كانت تشير إلى تمام الحادية عشرة صباحا، عندما نزلت “الخبر” إلى بادية بلدية عين وسارة شمالي ولاية الجلفة يوم الثاني عشر من شهر الصيام.. لا أحد موجود بمنطقة بوسدراية الفسيحة، بضعة مساكن مترامية هنا وهناك، وبعض الأطفال الصغار يرعون قطيع الماشية، سرنا مسافات طويلة ولم نصادف أمامنا غير هؤلاء الأطفال الذين تضاءلت أعدادهم نظراً لارتفاع درجات الحرارة التي فاقت 40 درجة. بعد طول المسافة التي قطعناها وجدنا السيد بوعبد الله دهيمي الذي قارب سنه السبعين الذي وجدناه برفقة قطيع من الغنم يقارب عددها ال150 رأس، كان يحمل بيده عصا وبيده الأخرى خروفا حديث الولادة. محدثنا قضى حسب تصريحاته زهاء 40 سنة خدمة كراع كل سنة عند شخص من أصحاب المال، وفي أكثر من بلدية اشتغل فيها هذه المهنة وحتى في خارج الولاية، وقطن داخل الخيم والأكواخ رفقة أفراد عائلته الذين يبلغ عددهم 11 فرداً يقول: “صحيح أن خادم الرجال سيدهم، لكن الواقع الذي عايشته وأنا أمارس مهنة الرعي لا يعكس هذه المقولة، التي قد ترفع المعنويات بين الحين والآخر”. مهنة الرعي، أو “السرحة”، بالنسبة لبو عبد الله، هي عنوان للبؤس والشقاء، ومن يمارسها يجب أن يتحلى بالصبر، فزيادة على متاعبها المتمثلة في التنقل بين منطقة ولأخرى بحثاً عن الكلأ، يلزمه الرعي في كل الأوقات وبالأخص في فصل الحر والأكثر خلال شهر رمضان المعظم، حيث يجبرك الرعي النهوض باكراً والعودة قبل ساعة عن آذان الإفطار ولا يعود أحيانا وقت القيلولة، أو يسمى في لغة الرعاة “الضحى” لأن الرجوع في هذا الوقت إلى الخيمة أو الدار يعلمك الكسل والنوم الزائد ولا تقدر على العودة في الفترة المسائية إلى مكان الرعي “لذا نجبر على البقاء رفقة القطيع في أي مكان يتوقف فيه القطيع عن الأكل وترتاع في مجموعة واحدة”، ويؤكد محدثنا أن عمله كراع لا يقلل من قدره لأنه راض بما رزقه الله وأن الوقت الحالي ليس كالسابق لأن كل شيء متوفر حالياً، ويضيف أنه تعرض للكثير من الإهانات وهو صغير أثناء عمله بمفرده عند صاحب المواشي كما هو معروف “قاعد في الراس”. وعن دخله الشهري فقد قال إنه لا يكفي حاجياته ومتطلبات عائلته اليومية، ومبلغ 25 ألف دينار جزائري لا يكفي حتى لشراء الدقيق والقهوة والسكر ناهيك عن المتطلبات الأخرى. وفي سياق حديثه أضاف أنه يجمع مبلغا ماليا آخر إضافيا بعد جمع عدد آخر من رؤوس الماشية من عند أشخاص آخرين معروفين يقطنون في المدينة، حيث يقبض 200 دج عن كل رأس ماشية، وختم قوله أن الرعي في الوقت الحالي زاد صعوبة والذي ليس له معين مغبون لكن فيه بركة. شاهد من أهلها يساعد والده المريض في الرعي وهو صائم الطفل محمد عقلي تلميذ مجتهد ويحلم أن يكون طبيبا في الطريق إلى منطقة “الخشم” التابعة لبلدية بنهار ولاية الجلفة، استوقفنا محمد عقلي الذي يبلغ من العمر 13 سنة جالساً فوق حجرة وبجواره في المرعى قطيع من الماشية، وكانت وقتها الساعة تشير إلى الرابعة مساء وسط حرارة لا تطاق، وعندما اقتربنا منه نهض وبادرنا التحية، سألناه عن أحواله فكان جوابه كله مرارة عن الأوضاع الاجتماعية السيئة لذويه الذين لم يقووا على توفير كل لوازم العيش لهم، ما دفع والده إلى البحث عن العمل خارج المدينة. قال محمد: “قبل 4 سنوات كنا نعيش في المدينة لكن العوز دفع الوالد على البحث عن العمل فوجد عملا كراعي مقابل أجر شهري يقارب 3 ملايين سنتيم، لكن مرض الوالد بداء السكري والضغط الدموي دفعني أن أقوم بالرعي مكانه في شهر الصيام لأني أنا أكبر إخوتي”. محمد فاجأني عندما قال لي “إني صائم كل الأيام التي مرت.. إني أنهض من الساعة السابعة صباحاً ثم أعود وقت القيلولة، أي منتصف النهار، رفقة القطيع، ثم أعود للرعي على الساعة الرابعة مساء إلى غاية آذان المغرب”. محمد عقلي استطاع، حسب أقوله، أن يجمع بين الدراسة ورعي الغنم، وفي الموسم الدراسي المنصرم تحصل على معدل 14 من 20، وأنه يزاول دراسته عند خالته بالمدينة ويتمنى محمد أن يكون طبيباً لكي يعوض والده ما عاناه وقاساه من أجلهم. يتحمّلون العطش والتعب والمرض رعاة الغنم يصومون 14 ساعة يوميا تحت أشعة الشمس لرعاة الغنم عالمهم الخاص خلال شهر رمضان، فهم يقضون أيامه تحت لفحات أشعة الشمس الحارقة متنقلين بين الوديان والجبال وفي الضيعات الواسعة بمفردهم مع رؤوس الماشية والكلاب التي تحرسها والحمار وسيلة النقل التي يلجأون إليها أحيانا للتخفيف من شدة التعب، وأيضا مذياع لسماع الأخبار والترويح عن النفس بالبرامج الفنية، وفي أحيان نادرة جدا هاتف للاتصال بالعالم الخارجي، لا يساورهم هم ولا قلق ولا وساوس.. بالنسبة للراعي “لحسن. س” الذي يقطن بتجمع المقطع الأحمر بالغيشة في ولاية الأغواط يبدأ يومه بصلاة الفجر وعند الساعة السابعة يسوق قطيعه فوق حماره ويصحبه كلبه باتجاه الجبل المحاذي للتجمع ولا يعود إلا قبيل صلاة الظهر، وفي حدود الساعة الثانية زوالا يذهب بالقطيع إلى ضيعة من الزرع (حصيدة) قريبة من التجمع تم حصدها ويبقى هناك حتى الساعة السابعة مساء ثم يعود ليتهيأ للإفطار مع زوجته وأولاده الصغار. وفي رده عن سؤال حول كيف يشعر بمرور اليوم وهو صائم قال: “أقطع مسافة تزيد عن 6 كلم يوميا تحت الشمس، لا أنام، أشعر بالعطش والتعب ويجف ريقي، ولكن أشعر بطاقة كبيرة على الصبر والتحمل لا أقلق ولا تراودني الوساوس حتى عندما أكون مريضا أحيانا.. إنها قدرة الله لا أتأثر أبدا”. أما الراعي “ن. سليمان” من بلدية الحاج المشري فشهر رمضان بالنسبة له شهر عادي يقضيه كباقي الشهور في مهنة الرعي، يخرج بقطيعه باكرا يحمل معه هاتفه الذي يتوفر على مذياع، يقصد الجبل القريب من المنزل يقضي فيه الفترة الصباحية، حيث يتصيد أماكن الظل يتابع فيها كل الأخبار والبرامج وأحيانا ينام قليلا، يعود إلى المنزل في منتصف النهار أحيانا وأحيانا يتجه إلى مكان آخر ويقضي يومه مع قطيع، حيث يأخذ قارورة ماء الوضوء للصلوات، يقول: “أشعر بالعطش الشديد وبالإعياء لكن أعتقد أن الله يعينني، كنت لا أستطيع الصبر على الأكل أو الشرب حتى لساعتين ولا أتحمل التعب في الأيام الأخرى، لكن صدقني في رمضان أشعر بقدرة أخرى بداخلي تجعلني أقاوم”. وبالنسبة إلى الراعي “م.ميلود” من بلدية البيضاء فإن “الرعي في رمضان صعب، فهو مهنة شاقة”، ويقول “تصوّر أننا نقطع أحيانا مسافة تزيد عن 10 كلم نتنقل من مكان إلى مكان ولا تتركك الغنم حتى تجلس، لابد أن تحرسها من الذئاب وحتى لا تذهب للأراضي الفلاحية، إن غفلت لحظة فقد تدفع الثمن غاليا، نقضي اليوم كله وقوفا تحت لهيب الحرارة نقاوم العطش والجوع والتعب ولا حيلة لنا لأنه مصدر عيشنا، ورغم كل هذا التعب، نقضي ليلنا مجتمعين حول صينيات القهوة وأباريق الشاي والحلويات التقليدية نتبادل الحكايات والأخبار ونستذكر ما فات من الذكريات”.