يتباهى البولنديون اليوم بعد 24 سنة من الإطاحة بالنظام الشيوعي، بأنهم استطاعوا أن يبنوا اقتصادا قضى على مظاهر الفقر والتخلف، وهو يحقق اليوم نموا سنويا يتراوح بين 2 و2,5 بالمائة، في وقت يعرف جزء كبير من أوروبا ركودا اقتصاديا. وفوق ذلك، هم يتفاخرون أمام بلدان أوروبا الشرقية التي التحقت قبلهم بالاتحاد الأوروبي، ببناء ديمقراطية حقيقية أساسها التداول على المناصب ومراكز القرار. في “دار التاريخ”، المنظمة غير الحكومية المتواجدة بالمدينة القديمة بالعاصمة وارسو، يشهد الأرشيف، المصوّر والمكتوب، على قوة الأحداث التي مرّت بها بولندا وعلى أهميتها في تحديد شخصية شعب عانى الويلات على يدي ألمانيا الهتلرية، التي دمّرت العاصمة تدميرا كليا في نهاية الحرب العالمية الثانية. ويهتم القائمون على “دار التاريخ”، بتنظيم حملات وتظاهرات في الهواء الطلق، تأخذ في الغالب شكل أعمال فلكلورية ومونولوغات يؤديها فنانون ومثقفون، يحاكون الأحداث التاريخية. وتذكر إيفلينا بيكالا، نائب مدير النشر في المنظمة، أن “دار التاريخ” أعدت منذ سنوات برنامجا تعليميا لفائدة تلاميذ كل الأطوار التعليمية، يطلعون من خلاله على أهم الفترات التاريخية التي عاشها بلدهم. وقالت إن “دار التاريخ” أطلقت في 2009 حملة في شوارع مدينة وارسو، سميت “إطفاء النظام الشيوعي”، بمناسبة مرور 20 سنة على أول انتخابات برلمانية، أفضت إلى وضع حد لدولة الحزب الشيوعي الذي حكم البلاد من حديد ردحا من الزمن. وتعتقد بيكالا أن الحملة “تعكس رغبة قوية لدى غالبية البولنديين، لدفن الشيوعية إلى الأبد”. ويعتبر هذا الحرص على طي صفحة الشيوعية، من جانب المشرفين على “دار التاريخ” محاولة لإقناع الكثير ممن يشدهم الحنين إلى زمن الاشتراكية وحكم اليسار، بأن مسار بولندا مر بمنعطف تاريخي وحاسم ولا يمكن أن تعود إلى بدايته. وترى مسؤولة أخرى بالمنظمة، أن الانتقال إلى الرأسمالية وما صاحبه من تحولات سياسية واقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، جعل البعض يحنّ إلى دولة الماضي التي كانت ترعى شؤون المواطنين فتوفر العمل والغذاء والتعليم للجميع، سواء كانوا أغنياء أو فقراء أو متوسطي الحال. ويقول البولنديون إن انتخابات 1989، التي جاءت نتيجة حوار عميق بين الأطراف السياسية، أو ما يسمى ب«المائدة المستديرة”، لم تكن نموذجا في النزاهة والشفافية لكن يكفيها أنها وجهت ضربة لأهم قلاع الشيوعية في معسكر الاتحاد السوفياتي، وتحولت، حسبهم، إلى مصدر إلهام لكل البلدان المجاورة التي حكمها الحزب الشيوعي. البلونديون يعيشون الأزمة الأوروبية دون قلق على مستقبلهم وحول الظروف التي عاشتها بولندا في ال25 سنة الماضية، قال يان ليتنسكي، مستشار رئيس الجمهورية برونيسلاف كوموروفسكي في لقاء به، إن أصعب الفترات كانت بين 1989 و1993، ثم بعدها وضعت البلاد رجلها على طريق النمو الاقتصادي، حسب المستشار. وقبلها عرفت بولندا أحداثا مفصلية، مهدت للدخول في مرحلة انتقالية بسلاسة، إذ كان ضروريا تهدئة الأوضاع على الجبهة الاجتماعية، بعقد هدنة مع نقابة “التضامن” القوية المعروفة ب«سوليدارنوست” بزعامة النقابي التاريخي ليش فاليزا، الذي سيصبح فيما بعد رئيسا للبلاد. ويسيطر على المشهد السياسي في بولندة حاليا، ستة أحزاب سياسية. أقواها حزبان، أحدهما يقوده الوزير الأول الليبرالي المحافظ، ويسمى “الأرضية المدنية”. والثاني هو “الحزب الشعبي البولندي” المدافع عن الفلاحين، جذوره تعود إلى بدايات القرن ال20، وكان لصيقا بالحزب الشيوعي ويدور في فلكه. والحزبان يهيمنان على الطاقم الحكومي. كما يوجد حزب آخر وريث الحزب الشيوعي، يدعى “التحالف الديمقراطي”. وعلى خلاف كثير من بلدان أوروبا، بما فيها غير العضوة في منطقة الأورو، تعيش بولندا الأزمة المالية التي تعصف بالقارة العجوز دون قلق على مستقبلها. ويعكس ذلك ثقة في قدرات البلاد ومؤسساتها وكفاءاتها، يفسّرها مستشار الرئيس بقوله: “لدينا نظام بنكي ممتاز، فالبنك المركزي مستقل عن كل هيئة سياسية وقراراته يتخذها مختصون بعيدا عن أي حسابات. وقد أمكن دوره من تحاشي القرارات غير المسؤولة التي اتخذتها بلدان أخرى، فأدخلت البلاد في أزمة مالية حادة”. غير أن المستشار متخوف من مرحلة صعبة قد تعرفها بولونيا في الفترة المقبلة، بسبب بوادر عجز في الميزانية، ومؤشرات نمو اقتصادي أقلّ من التوقعات، وارتفاع معدلات البطالة وسط الفئات العمرية الشابة. ويحتدم نقاش كبير في بولندا حاليا، حول أهمية دخول منطقة الأورو من عدمه بسبب الأزمة الأوروبية العاصفة. فقد كان متوقعا أن يكون الانضمام في أفق 2015، أما الآن فالحذر هو سمة الخطاب الداعي إلى تطبيق توجيهات المفوضية الأوروبية، بخصوص مسار الانضمام إلى الاتحاد. ويعزو المستشار يان ليتنسكي، نجاح الاقتصاد البولندي في تخطي المشاكل التي عاشتها بلدان طلقت الشيوعية والاشتراكية، إلى حرية المبادرة الاقتصادية، وفي إنشاء عدد من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (3 آلاف حسب إحصائيات رسمية)، ما أعطى البلاد حركية اقتصادية كبيرة، وحققت نموا سريعا في ال20 سنة الماضية. لكن توجد نقائص كثيرة تواجه الاقتصاد، أهمها الإطار التشريعي الذي يضبط قوانين المال والأعمال، الموصوف ب«الرديء” و«البطيء”. وأكثر ما يقلق الحكومة حاليا، أدوار سياسية تلعبها روسيا في البلاد تحت غطاء بيع الغاز من خلال فرض شروط سياسية. ويقول المستشار الرئاسي: “موسكو مصدر توتر سياسي بالنسبة لنا، ومشكلتنا معها أنها ليست دولة ديمقراطية، بعكس ألمانيا التي تجمعنا بها علاقات ممتازة رغم بعض المشاكل الموروثة من الماضي والتي ليس لها تأثير”. وتختلف مواقف البولنديين من قضية الدمقرطة في البلاد. فبينما يرى البعض أن الديمقراطية مشاعة، يقول المسؤولون ب«مؤسسة تنمية الديمقراطية المحلية” بالعاصمة وارسو، في لقاء بهم أن بلدهم لم يبلغ بعد الديمقراطية التشاركية، التي تقتضي إشراك المواطن في كل القرارات المتخذة على الصعيد المحلي والوطني. ويعيب هؤلاء على الدولة، أنها توجه الأموال إلى مشاريع غير مجدية ماليا، أحيانا. والدليل على ذلك، حسبهم، هو بناء ملاعب لكرة القدم بمناسبة احتضان كأس أوروبا للأمم في كرة القدم في 2012، كلّفت الخزينة أموالا كبيرة، وبعد انتهاء التظاهرة بقيت الملاعب مجرد هياكل ومنشآت لا تجلب للدولة ولا للبلديات التي بنيت فيها، عائدات مالية تستفيد منها. ويعتقد البولنديون أنهم وسكان كوريا الجنوبية، أكثر شعوب العالم من حيث حجم ساعات العمل. فرسميا يشتغل البولندي 40 ساعة في الأسبوع، ولكن الحقيقة أنه يشتغل 48 ساعة. ويقول أحد المسؤولين إن الساعات الإضافية “تعبير منا عن رغبتنا في تخطي الفقر الذي لازمنا في الماضي، وتعبير عن انتقامنا من التاريخ”. وأفادت جوستينا بورازينسكا، ممثلة عن دائرة آسيا والشرق الأوسط بوزارة الخارجية في لقاء بها، أن بولندا ابتعدت عن شركائها الإيديولوجيين سابقا بعد طلاقها مع الشيوعية في 1989، مفضّلة إعطاء الأولوية لإصلاح الداخل. “فقد توقف التبادل التجاري مع الجزائر، تقول جوستينا، بسبب التحولات التي جرت في بلادنا ولكن أيضا بسبب الحرب الأهلية التي عاشها بلدكم. ولكن استأنفنا الحوار الاقتصادي بيننا على خلفية تبادل الزيارات بين وفود اقتصادية رسمية وغير رسمية، وبلغ التبادل التجاري 250 مليون أورو عام 2012”. وتصدّر بولونيا للجزائر الفحم وآلات صناعية، في مقابل استيراد منتجات طاقوية منها. ولما زار وزير الخارجية مراد مدلسي، العاصمة وارسو عام 2011، تم الاتفاق مع المسؤولين البولنديين على رفع سقف التعاون الاقتصادي. وتقول نفس المسؤولة بالخارجية، إن السلطات مرتاحة لمستوى التبادل الحالي مع الجزائر وأنها مدرجة ضمن 5 دول تعطى لها الأولوية في تطوير المبادلات التجارية والتعاون الاقتصادي. ولكنها ذكرت أن قاعدة الاستثمار المبنية على 49/51 لا تشجع رجال الأعمال البولنديين على استثمار أموالهم في الجزائر. رئيس مجلس الشيوخ: الجزائر ستتأثر بالتحولات في المنطقة العربية في لقاء مع رئيس مجلس الشيوخ البولندي، بوغدان بوروسيفيز، بمبنى البرلمان، قال إن بلده عاش ظروفا صعبة في فترة الانتقال من الشيوعية إلى الانفتاح السياسي، “ولكنها بالتأكيد ليست أصعب مما تعيشه حاليا بلدان شمال إفريقيا وخاصة تونس وليبيا”. ويعتقد بوروسيفيز أن الجزائر ستتأثر لا محالة بما يجري بالمنطقة العربية من تحولات. وعلى خلاف سوريا وليبيا، يرى أن مسار التغيير في تونس سيكون أهدأ. وأضاف: “عملية الانتقال عندنا تمت في هدوء ورزانة، ولكن تعرضت الحكومات المتعاقبة لضغوط اجتماعية قوية، ومن حسن الحظ أنها كانت منظمة، والفضل يعود للنخبة التي رافقتها وأطّرتها”. وتابع: “بولندا في وضع جيد بعد 24 سنة من تجربة التعددية. فنظامنا الديمقراطي مستقر والدولة مستقرة رغم تعاقب الحكومات، ونحقق نموا اقتصاديا يتراوح بين 1,5 و2 بالمائة سنويا، صحيح هي نسبة قليلة، ولكن اقتصادنا يعد بمستقبل واعد وصادراتنا في ارتفاع مستمر”. ويقول رئيس مجلس الشيوخ إن الأرقام المتصلة بالمبادلات التجارية مع الجزائر ليست كبيرة، ولا تعكس قوة العلاقات التاريخية المشتركة. وذكر أن ما يهم وارسو في علاقتها مع الجزائر هو الغاز. مشيرا إلى أن هذا الموضوع كان من أهم ما أثاره خلال زيارته للجزائر عام 2011، وأنه تلقى صدى إيجابيا من المسؤولين الجزائريين. بيوليستوك قرب حدود بيلوروسيا ملتقى الثقافتين الإسلامية والمسيحية في بيوليستوك التي تبعد بحوالي 250 كلم عن وارسو، باتجاه حدود بيلوروسيا، يعيش حوالي 700 مسلم، غالبيتهم لاجئون شيشانيون ومن أحفاد التتار وطلاب أجانب أكثرهم من اليمن. وهؤلاء يريدون أن يكونوا مواطنين بولنديين بكامل الحقوق، ومن بينها الحق في المشاركة في الانتخابات. ويذكر مدير المركز الإسلامي في بيوليستوك، الفلسطيني حسام فريخ، أن المسلمين في بولندا بضعة آلاف يوجد بينهم عرب ودبلوماسيون من دول إسلامية، زيادة على قدامى المسلمين في البلاد فضلا عن بولنديين اعتنقوا الإسلام وهم في تزايد مستمر، حسب حسام الذي يشرف على شؤون المركز من أعمال خيرية وتنظيم ملتقيات في المناسبات الدينية، كالشهر الفضيل، وفوق ذلك هو يصلي بمسلمي المنطقة صلاة الجمعة وعيدي الفطر والأضحى. ورفض حسام فكرة أن يقوم المركز بدعوة البولنديين إلى الإسلام، “فنشاطنا غير موجه لأسلمة البولنديين وإنما ندرّس ديننا وحضارتنا للمسلمين. وسكان بيوليستوك مسيحيون كاثوليك في غالبيتهم، غير أن مدينتنا معروفة بكونها مكانا لالتقاء ثقافات الأرثوذوكس والمسلمين والكاثوليك”. وحول ما إذا كانت ظاهرة “الإسلاموفوبيا” تلاحق مسلمي بيوليستوك، قال حسام: “ليس بيننا وبين أي أحد عداوات في بلدتنا، فمعظمنا يريد ممارسة دينه ولا شأن له بالآخرين. ولا تجد من بيننا من يمنع أبناءه عن التواصل مع أبناء المسيحيين ولا حتى الكبار، لأننا نحرص على إعطاء صورة سمحة عنا في هذا المجتمع”. ويستفيد المركز الإسلامي في بيوليستوك من مساعدة سفارات بلدان عربية كالسعودية والجزائر تحت مظلة الرابطة الإسلامية في جمهورية بولندا، ويقول حسام إن المركز يطلب الدعم السياسي خاصة، وأشاد ب«نوعية” الدعم الذي يتلقاه من السفير الجزائري عبد القادر خمري الذي استضافنا بمقر إقامته بالعاصمة.