مشى مع الجُموع في المسيرات حاملا لافتاتٍ تطالبُ بإسقاط النظام. احتلَّ معهم السَّاحات العامة منتظرًا رحيل رأس النظام الفاسد القمعيّ لينبلجَ فجرُ الحرية والكرامة والديمقراطية والمُواطنة. وأخيرًا، سقط النظام ورحلَ الرئيس. جاء العهدُ الجديد: ستحل الشريعة محلّ القانون الوضعيّ. ستنتصرُ الطائفة الغالبة الناجية. ستعلو الغبطة وجه السَّماء وتتزيَّنُ دروبُ الخلاص للمؤمنين الجُدد. سُحقا للمُواطنة والحرية والمُساواة. سُحقا للأرض: مَهدِ الفوضى والتعدّد والسقوط. عاد إلى بيته فرحا. رمى قناع فولتير الذي لبسهُ في الشارع ليوهمَ الجميع بأنه ثوريّ حقا. بداية، فكر في تحطيم محل لبيع الأشرطة الغنائية قبالة بيته، وقرَّر أن ينوبَ عن أزواجه في الانتخابات القادمة. 2 لا يكفي أن نقطعَ رأس الملك كي نقولَ إننا قمنا بثورة. السؤال الأساسيّ هو: من قطع رأس الملك؟ 3 ”سنونوة واحدة لا تصنعُ الرَّبيع”، كما يقال. وليس بإمكان قطع رأس الملك أن يصنعَ، لوحده، ربيعَ الديمقراطية أيها ”الرَّبيع العربيّ”، يا آخر ولاداتنا غير المُكتملة... 4 من أهمّ ما كشفَ عنه ”الربيع العربي” بعد صعود الإسلاميين وعودتهم إلى الساحة السياسية بقوة أنَّ المُجتمعَ العربيّ – في بنيته السوسيو/ ثقافية القاعدية – ما زال بحاجة إلى نقد جذريّ. فلا يكفي أبدًا نقدُ المُستبد العربيّ والعمل على رحيله؛ لأنَّ ذلك ليس إلا الجزء الظاهر من الجبل الجليديّ. وإنما نحنُ بحاجة إلى العمل على خلخلة قاعدة الاستبداد والطغيان وقمع الفرد: أعني المُجتمع الأبويّ الذي ما زال يُنتجُ المستبدَّ ويعتبرهُ تجسيدًا للمُنقذ والمُخلص. نحنُ بحاجة إلى العمل على تحوّل اجتماعي وثقافي كبير لا أرى، شخصيا، تباشيره القريبة. 5 كتب ناقدُ ميراث ”الأنوار” الكبيرُ ميشال فوكو مُؤلَّفه المُهم ”المراقبة والعقاب: ميلاد السّجن” في مُحاولة لنقد البنية العامة للمجتمع الغربيّ الحديث القائم على الانضباط، وعلى تدجين الفرد بوساطة شبكة كبيرة ومُعقدة من المُؤسَّسات التي تشبهُ السِّجن في بنيتها وأدائها. من سيكتبُ، على غراره، عندنا ”الوصاية والتكفير: ميلاد العبد”، في صورة مُحاولة لنقد المجتمع العربي – الإسلامي وآلياته العامة في إنتاج الفرد الطائع الخاضع، وتأثيث حدائقنا الخانقة بالأشجار المُحرَّمة؟ 6ما تكونُ ”ثورة” تفتقرُ إلى رغبة الأنسنة وتجاوز الاستلاب في الواقع القمعيّ؟ ما تكونُ ”ثورة” تدعو إلى التطهُر من أحلام الإنسان العميقة، واستعادة أزمنة بائدة كان فيها الإنسانُ مُنشدَ الظل في كورس المعبد المُقدَّس؟ ما تكونُ ”ثورة” يقودها هاجسُ إعلان البراءة من العالم لا هاجس تجاوزه وتغييره؟ ما تكونُ ”ثورة” تحلمُ بفراديس الوصاية والأبوية وهيمنة الذكورة واستعادة مجد السّماء الآفلة؟ هذه الأسئلة وغيرها تجعلني أعتقدُ أنَّ حصادنا من ”الربيع العربيّ” يجبُ أن يكونَ موضع نقاش ونحنُ نشهدُ عودة الإسلاميّين بقوة إلى المشهد السياسيّ. 7 لماذا لا نكونُ بتفكيرنا وسلوكنا وحياتنا وسياستنا إغناءً للديمقراطيَّة وتقديما لطبعة جديدة لها تفتحُها على بعض مشاغل الإنسان السَّاقطة من طبعاتها الكلاسيكيَّة، ليبرالية كانت أو شعبيَّة؟ لماذا – في ظل انطفاء جذوة الإبداع والحضور المُتميّز في العالم – لا نستطيعُ حتى أن نتتلمذ بصورة لامعة على إنجازات الآخر في الديمقراطية وغيرها؟ لماذا انحط مفهوم الديمقراطية عندنا إلى لعبة صناديق الاقتراع الشكلية، بمعزل عن مضامينها الفلسفية وثورتها في عالم القيم باعتبارها عهدًا دشنَ مركزية الإنسان ومرجعيته الأخلاقية والسياسية؟ كيف لنا – ونحنُ نُبشرُ بأشكال الوصاية الجديدة – أن نُدرك العمق الفعليَّ للديمقراطية بوصفها انسلاخا من زمن الوصاية والمرجعيات المُفارقة وتأسيسا لمرجعية ”الإرادة العامة”؟ لماذا لم نفهم من ”الإرادة العامة” تلك الرغبة في تأسيس العيش المُشترك على المُساواة والعدالة والحقوق الفردية والجماعية؟ لماذا انحطت ”الإرادة العامة” عندنا إلى إرادة الطائفة الغالبة التي تحلمُ بالإجهاز على المُساواة والعدالة، وتميلُ إلى التضييق على الحريات وإرغام الناس على الخضوع لرواية الخلاص الذي تفرضهُ تلك الطائفة باعتبارها الوحيدة ”الناجية”؟ هل الديمقراطية اختيارٌ لعيش مُشترك يضمنُ المُواطنة والحرية والمُساواة، أم هي حيلة في الاستئثار بالسلطة عبر لعبة صناديق الاقتراع التي أصبحت عندنا هبوطا شرعيا إلى جحيم التراجع عن مُكتسبات الإنسان العربيّ والمرأة العربية؟ لماذا لا تُفصحُ الديمقراطية عندنا عن توق إلى التحرر والتقدم وإنما عن رغبة في بعث المُجتمع الطائفي الذكوريّ المُغلق؟ كيف لنا أن نكونَ ديمقراطيين ونحنُ لا نُؤمنُ بالإنسان ومرجعيته؟ كيف نكونُ ديمقراطيين ونحنُ لا نُؤمنُ بالحرية والمُساواة والعيش المُشترك على أساس من المُواطنة الكاملة؟ 8 ما معنى القول إنَّ نظاما سياسيا مُعيَّنا يمثل ”الإسلام الصحيح”؟ وما معنى القول إنَّ فكرًا بعينه يمثل ”الإسلام الصحيح”؟ وهل هناك ”إسلام صحيحٌ” وآخر ”خاطئ”؟ وما معنى الصحة والخطأ هنا؟ ما معيارهما؟ ومن يُحدّدُ ذلك؟ واستنادًا إلى ماذا؟ لنعُد قليلا إلى الوراء. من كان يُمثل ”الإسلام الصَّحيح” في تاريخنا البعيد؟ عليّ أم مُعاوية؟ القدرية أم الجهمية؟ المعتزلة أم الأشاعرة؟ الفلاسفة أم المُتصوفة؟ ابن تيميَّة أم ابن رشد؟ هل هناك مرجعية مُطلقة تحدّدُ معايير الصواب والخطأ في هذا المجال؟ ألم تكن كل هذه التيارات والمذاهب والمواقف المُتباينة نتاجا للتأويل ولقراءات خاصَّة للنص الأوَّل؟ ألم ينشأ بعضها في ظل حرب سياسية دمويَّة من أجل خلع الشرعية على شهوة السلطة ونبذ الآخر المُنافس؟ أليس في هذا ما يدل على خطر استخدام الدين سياسيا بصورة تُبرّرُ العنف وتعطيه طابعا مُقدَّسا؟ أليس في هذا ما يُبيّنُ كيف أنَّ الحقيقة في يد الدولة والإيديولوجية تصبحُ أكبر عدو للإنسان، ومرجعية عليا يُسحق باسمها المُختلِف ويُكفر كما نجدُ ذلك في بعض بلداننا العربية بكل أسف؟ على الحقيقة أن تتحرَّرَ من السياسة لتصبحَ بحثا لا عقيدة. هذه هي العلمنة بكل بساطة. على الدين أن يتحرَّرَ من المُؤسَّسة التي تستخدمهُ أداة للسلطة في هيمنة الطائفة الغالبة وقمع المُختلف وقهر المرأة وإدانة الحرية والإبداع. الدينُ تجربة روحية تعاشُ وليس وصاية للزج بالحياة وغناها وتعدّديتها في اتجاه نمذجة الفكر والسلوك. على الدين أن يعيشَ لانهائية التأويل والبحث عن المعنى الذي يُعانقُ لحظته بعيدًا عن ألاعيب السياسة التي لا يهُمّها منهُ إلا ما يخدمُ ديمومتها أو يسترُ عورتها.