لعقد من الزمن كان الإعلام بمثابة المرآة العاكسة لتطور المجتمعات وتقدّمها، بما يحمله في مدلوله الاصطلاحي الدافع نحو تزويد الناس بالأخبار الصحيحة والمعلومات الدقيقة والحقائق الثابتة، لكن اليوم هذه البوصلة الإعلامية تغيّرت حدة نبرتها وتحوّلت من نعمة إلى نقمة، لا تحسد عليها ولا يفرح لها الكثير، نظير ما ستعكسه برامجها المعبدة لطريق العنف و«البلطجة”، التي تزامنت نسبيا مع شبّ لهيب ثورات ”الربيع العربي” التي غطرست الإعلام العربي وجعلته يفقد مكانته وأهميته لدى الجماهير العربية. ومن مناهج الدلالات السيميائية الدالة على مظاهر العنف في الإعلام العربي، كأبسط مثال لاحظناه ونحن في رحاب فضيلة شهر رمضان المبارك، الذي نلهف فيه بشكل ملفت على متابعة البرامج الرمضانية المبرمجة في مختلف الفضائيات الإعلامية، والتي نجد من بينها الدراما المصرية والسورية قد نالت فيها حصة الأسد من المتابعة الجماهيرية العربية لها، مقارنة بتلك البرامج الأخرى التي تقلصت نسبة مشاهدتها. وخلال تتبعنا وملاحظتنا لبعض ملامح الدرامة المصرية والسورية نرى بأنها قد غيّرت منهجيتها، متعمدة في ذلك على النقل التمثلي لملامح الثورات العربية، بدلا من المشاهد الاجتماعية التي تضفي عليها نوعا من الكوميديا، كما كنا نعهدها في السابق، خاصة ونحن في هذا الشهر المبارك، فبرغم نبل هدف هذه الدراما في كشف معاناة الشعوب التي مرّ عليها ”الربيع العربي”، إلا أنها في الوقت نفسه قد تزيد من وتيرة الحقن وعلة العنف التي تولدها روح الانتفاضة والانتقام لما تبعثه تلك المشاهد التي تمثلها شخصيات تمثلية بارزة في هذه الدراما، والتي لها صدى واسع في الأوساط الشعبية العربية إلى تعميق جرح هذه الثورات بدلا من تضميدها، لأنه مهما وصفناها فلا تزال هذه الثورات ميسورة الحال، ولا حاجة لإعادة اسطوانتها. وقد دقّ بذلك، أيضا، الإعلام العربي ناقوس الخطر ليس فقط بشحنه الروح الانتقامية داخل البيت الاجتماعي للشعب الواحد، بل تعداه ليصل إلى إثارة النرفزة والمعاداة الشعوبية لبعضها البعض، على غرار مثلا ما أفرزته مؤخرا الثورة المصرية الثانية من حرب إعلامية نذلة شنّها، للأسف، بعض فلول الإعلام المصري على السوريين والفلسطنيين، الأمر الذي ولّد شيئا من البغض والكراهية بين هذه الشعوب، نتيجة ”نجوم” الفتن التي لا تتوانى في تحقين غرائز هذه الشعوب بما لا يمت بأي صلة للإعلام النزيه بمثل ما حدث في 2009 بين الجزائر ومصر من أجل مباراة كرة قدم اهتزت لها أرضية الشعبين، وأصبح كل آخر يتوعد الآخر لسبب واحد أدخلهما في دوامة العنف، وهو متمثل في الأخذ والردّ المتجاذب بين إعلاميين من كلتا الطرفين. وتزداد علّة الإعلام العربي بمجرد الحديث عن الفضائيات العربية العملاقة، التي سيجد فيها المشاهد العربي مناله وافتخاره في أنها النموذج الناجح لعصرنة هذا الإعلام، لكن عدوى ”الربيع العربي” قد يتعجل له ذلك، في ظل انقياد بعض الفضائيات إلى الانسلاخ نحو الذاتية في تغطية أحداث، وتجاوزها لأحداث أخرى عمدا منها للمقاس نفسه الذي حدث في مصر، وكان سببا في استقالة العديد من الصحفيين من قناة ”الجزيرة”، نتيجة انحياز هذه الأخيرة في تغطيتها لأحداث دون أخرى، والشأن نفسه فيما يخص قناة ”العربية”، التي شهدت استقالة بعض صحفييها وسقوط نوعية مصداقيتها في تغطيتها لأحداث ”الربيع العربي”. وهذا يدل هذا على أن الإعلام أدى بالعنف حتى على إعلامييه وصحفييه الذين خدموه لسنوات طوال، ليطردهم بعدها باستقالات متوالية نحو البطالة والتهميش الذي طالهم، خاصة وأن بعض الإعلاميين تعرضوا بسببه إلى انتقادات وشتائم من ”الثوار”، بسبب تلك الفضائيات التي اتبعوها في سياستها. وفي مقابل ذلك، نرى بأن نجومية هذه الفضائيات العربية قد بدأت تضمحل، وتفقد شعبيتها ومصداقيتها في أعين جماهيرها التي أعلنت شعار ”التغرب الإعلامي”، أي اللجوء إلى الفضائيات الأجنبية ك«بي بي سي” و«سي أن أن” من أجل تقصي الحقائق، على الطريقة التي فعلت بها الجماهير العربية في تعقب حقائق الثورة المصرية، والتي وجدت نفسها بسبب الإعلام العربي مشوشة ذهنيا.. بأي صنف ستقف مع ”الإخوان” أو ”الجيش”، نتيجة عدم وجود رؤيا حقيقة تبيّن لنا الظالم من المظلوم بسبب الانقسام الطبيعي لهذه الوسائل الإعلامية بين مؤيد ل«شرعية” الإخوان وعدمها، ما ولد نوعا من التذبذب في مصداقيتها لدى الجماهير العربية. ونلمس من كل هذا، للأسف، تغيّر مرجعية بعض الإعلاميين والفضائيات الإعلامية من وسائل رفيعة المستوى في نقل المعلومات الدقيقة كما هي، إلى وسائل متعفنة مهتمة بصناعة الأحداث وفقا لأيديولوجيتها وسياستها التي تريدها.