مع حرق محمد البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيدالتونسية، وخروج الجماهير للتضامن معه والاحتجاج ضد الفساد والظلم في البلاد، هبت أولى نسمات رياح الثورة، لتقوى وتصبح عاصفة أسقطت نظام بن علي، وبعده نظام مبارك والقذافي، ولا تزال تعصف في سوريا واليمن. وأخذت التغطية الإعلامية لهذه الثورات حيزا كبيرا من اهتمام الشارع العربي، بين من يرى بأن الفضائيات العربية قامت بدورها على أكمل وجه، فرافقت الثورات العربية وساهمت في إنجاحها، وبين آراء أخرى انتقدت الأداء الإعلامي لكبرى القنوات العربية، واتهمتها بالتحيز وخلق البلبلة والتهييج الإعلامي، وخدمة أجندات خارجية، وغض الطرف عن تغطية تحركات الشارع في دول ''صديقة'' و''حليفة''، بهدف إجهاض الثورات في هذه البلدان. بين التعتيم والتهييج ''الجزيرة'' و''العربية'' في مواجهة أسئلة الشارع العربي لماذا تصر الفضائيات العربية ذات التأثير الجماهيري الكبير، مثل ''الجزيرة'' و''العربية'' على اعتبار ما يجري في دول مثل تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن ثورات شعوب ضد أنظمتها، بينما ترى في ثورة البحرين مجرد أحداث طائفية؟ ولماذا ينفخ الإعلام الإيراني مثلا في أحداث البحرين، بالحق والباطل، بينما يرى في ثورة الشعب السوري محاولة انقلاب على بشار الأسد، وانخراطا في مخطط لزعزعة استقرار المنطقة؟. مثل هذه الأسئلة، هي التي يبحث قطاع واسع من المشاهدين العرب عن أجوبة لها، عندما يشاهدون تناقضا صارخا في شاشات التلفزيون، التي شرعت منذ شهر جانفي 2011 وحتى اليوم، في منح مساحات واسعة من البث لنقل أحداث ما اصطلح عليه ب''ثورات الربيع العربي''. والنقاش الحقيقي، برأي مراقبين، لا يكمن في صعوبة توقف الفضائيات عن بث كل ما يصلها، أمام حاجتها المتزايدة للصور، وأمام حاجة متزايدة أيضا للمشاهدين في الحصول على متابعة مستمرة لما يجري في محيطهم المحلي والإقليمي. النقاش الحقيقي هو لماذا تتغنى قنوات فضائية عربية بقيم الموضوعية والمهنية، فتسلط كاميراتها ومراسليها على دول بعينها وتصف قادتها بالدكتاتوريين، كما هو الشأن مع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، والرئيس المصري حسني مبارك، والرئيس الليبي معمر القذافي، والرئيس اليمني عبد الله صالح، والرئيس السوري بشار الأسد، بينما يتم التعتيم الإعلامي على ما يجري في دول أخرى، مثل البحرين أو ما يحدث في منطقة القطيف شرقي المملكة السعودية، وكذلك حركة ''البدون'' في الكويت مثلا، كما لا يتم استعراض مظاهرات الربيع العربي في العراق حيث جرى ''إخمادها'' إعلاميا. كما وجب تسجيل الملاحظة ذاتها للإعلام الإيراني، الذي يصور يوميا ما يحدث في البحرين على أنه ثورة شعب ضد نظام مستبد، لكنه قبل سنتين تعامل بعنف مع دعوات التغيير الرافضة للرئيس أحمدي نجاد، وها هو الإعلام الإيراني اليوم يقف مساندا للرئيس السوري بشار الأسد في وجه ''شعب متآمر''. ومن الناحية التقنية، تتحجج القنوات الفضائية بنقل صور ومشاهد بالصوت والصورة لمواطنين، كل من بلده، يتحدثون لهجات تونسية ومصرية وليبية وسورية ويمنية، للدلالة على أن الأحداث ليست مفبركة، وإنما وقعت فعلا ولم تقم القناة سوى ببثها، وأن الصور وصلتها عبر البريد الإلكتروني، بعد تضييق السلطات عليها، وعدم السماح لها بالتصوير. وتقنيا دائما، لا ينتبه عادة المشاهدون البسطاء، وعددهم بالملايين، إلى أن التلفزيونات المحترمة تفرض على نفسها وضع كلمة ''أرشيف'' كلما تعلق الأمر بصور ومشاهد قديمة، حتى ولو مر على حدوثها أيام فقط. وهناك أيضا حيل كثيرة لا ينتبه لها المشاهدون من قبيل إعادة القنوات تكرار بث مشاهد القتل والمظاهرات على مدار الساعة في نشرات الأخبار، حتى يحدث الانطباع لدى المشاهد بأن الاحتجاجات متواصلة، حتى وإن كان الواقع على الأرض مختلفا. وفي المحصلة يمكن الوقوف على حقيقة أن الفضائيات العربية كغيرها من الفضائيات العالمية لا تنفذ سوى أجندات إخبارية تعكس الأجندات السياسية للدول التي تملكها. الأكاديمي نصر الدين لعياضي ل ''الخبر'' ''الإعلام العربي لا يملك مصداقية حتى يفقدها'' ''الأنترنت رفع الحصار عن المعلومة والرأي'' لا يعترف الباحث في شؤون الإعلام والاتصال، الدكتور نصر الدين لعياضي، بما يسمّى ''الإعلام العربي''، فبالنسبة إليه ''هذه الكلمة كناية أطلقتها وسائل الإعلام العربية على ما تقوم به''، فما يوجد حسبه ''وسائل إعلام عربية قد تلتقي وقد تختلف، والسّبب أنها لم تكن أبدا مستقلة عن الأنظمة السياسية والضغوط الاقتصادية''. ويرفض الدكتور نصر الدين لعياضي، أيضا، في تصريح ل''الخبر''، مقولة ''الإعلام العربي فقد مصداقيته''، فهذا يعني كما يقول ''أن هذا الإعلام كان يملك مصداقية وفقدها، فجأة، لأسباب خفية أو مجهولة''، حيث يعتقد أن وسائل الإعلام العربية لم تتخلص مما أسماه ''الإرث القاتل''، الذي تجرّه وراءها، وهو الإعلام التجنيدي أو التعبوي، الذي ترعرع منذ الستينيات من القرن الماضي في قاعات التحرير، موضحا أن الجديد اليوم ''يكمن في وجود وسائل إعلامية عربية ترفع المعنويات، وتلك تثبط العزائم وتدعو إلى اليأس''. ورغم محاولة بعض هذه الوسائل، يقول الدكتور، ''تطليق الإعلام التجنيدي، واستبدلته بإعلام العلاقات العامة، لكن النتيجة واحدة''. وتتجلى أثار ما سبق حسب تحليل الدكتور نصر الدين لعياضي في ''التعثر الواضح في إسناد معلوماتها إلى مصادر، أو الاكتفاء بأحادية هذه المصادر بالنسبة لوسائل الإعلام التي تسعى لذكر مصادرها، بالإضافة إلى ''التكتم عن هوية الخبراء والمختصين الذين تعطى لهم الكلمة. هذا إن لم تزوّر جهرا''، مع ''الجنوح إلى الرأي والتعليق على حساب المعلومات والمعطيات''، مشيرا إلى ''الضعف المهني الواضح في صياغة المادة الإخبارية، حيث أن الجمهور لا يعرف أين الأهم من المهم، وأين الأساسي من الثانوي''. ويحيل الدكتور كل من يرى فيما سبق ذكره ''نوعا من القسوة أو الاستفزاز'' على مراجعة مصادر أخبار ''الثورات العربية''، حيث يسجّل أن أبرز الأحداث، التي عاشتها تونس أو مصر أو ليبيا والتي تعيشها سوريا واليمن اليوم، ''وصلتنا من وكالة رويترز، ووكالة الألمانية، ووكالة الأنباء الفرنسية''. وكل ما فعلته وسائل الإعلام العربية، حسب المتحدث،''أنها نقلتها، أو وجّهت مراسليها ومبعوثيها إلى تأكيدها. وحاولت إما أن تهوّل هذه الأخبار، أو تحجمها، حسب موقف كل وسيلة إعلامية من الصراع الدائر في هذه الدولة العربية أو تلك''. ويخلص الدكتور إلى أن ما زاد في مسؤولية وسائل الإعلام العربية، وجعلها هدفا للنقد المتزايد أن ''قنوات التواصل اليوم تعددت وتنوعت، فالشبكات الاجتماعية عبر الأنترنت كانت الأسرع في نقل بعض الوقائع بالصوت والصورة والكلمة''. كما أن قوى اجتماعية وثقافية أصبحت منتجة نشيطة للمعلومات والأفكار، وبهذا يضيف ''رفعت يد النخبة السياسية والاقتصادية والإعلامية عن احتكار المعلومات وحجب الآراء''. 55 بالمائة من السوريين مع بقاء بشار الأسد ''الغارديان'' الإنجليزية تفضح التعتيم القطري تحدثت جريدة ''الغارديان'' البريطانية في مقال لكبير المراسلين للشؤون الدولية، جوناتان ستيل، حول التلاعب الإعلامي الحاصل في الأزمة السورية، مشيرا إلى أن التغطية الإعلامية للأحداث في سوريا بعيدة عن حقيقة الوضع. ومع أن الصحافي البريطاني لم يتحدث عن اختلاق لأخبار لا تنافي الواقع، إلا أنه أكد أن طريقة تقديم وصياغة الأخبار تبرز الكثير من الانحياز، في إشارة إلى أن هناك من التقنيات المنتهجة التي باتت تقارب تقنيات الحرب النفسية، على اعتبار أن هناك تفضيلا لنوعية من الأخبار التي تخدم هدفا معينا، في حين يتم التغاضي عن أخبار، أو إحالتها لآخر الترتيب من حيث الأولوية والأهمية. ومن هذه الأخبار التي أفرد لها الصحافي البريطاني جانبا من مقاله التحليلي حول الوضع في سوريا، سبرا للآراء كشف عنه لأول مرة، مشيرا إلى أن ''مؤسسة قطر'' أشرفت على تنظيم سبر آراء في سوريا حول مدى تمسك الشعب السوري بالرئيس بشار الأسد، ويضيف الصحافي أنه بالرغم من أهمية النتائج المتوصل لها إلا أنه تم التغاضي عنها، لكونها لا تتفق مع الاتجاه العام المتبع في التعامل مع الأزمة السورية. ويقول الصحافي إن سؤال استطلاع رأي جاء على النحو التالي: هل تريدون الإطاحة بالرئيس السوري؟ وقد جاءت النتائج على النحو التالي 55 بالمائة من المستجوبين يؤكدون أنهم لا يؤيدون رحيل الرئيس بشار الأسد. وفي تفاصيل الاستطلاع أكد المستجوبون أنهم يخشون من اندلاع حرب أهلية. والحال أن الاستطلاع المذكور لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد ليكشف تأييد غالبية السوريين المضي في مسار انتخابي بمشاركة المعارضة، وفي ظل النظام الحالي، لوضع حد للأزمة التي تعصف بالبلاد. ويخلص الكاتب الصحافي إلى أنه نظرا لهذه النتائج، التي لم تندرج في سياق الاتجاه العام للتغطية الإعلامية للأزمة السورية، فقد اختارت مؤسسة قطر عدم نشر الاستطلاع، وبالتالي لم يظهر في وسائل الإعلام العالمية. الدكتور محمد قيراط ل ''الخبر'' ''الإعلام العربي يعاني من ضعف الاحترافية والمهنية'' يرى الدكتور محمد قيراط، عميد كلية الإعلام في جامعة الشارقة بالإمارات، أن الإعلام العربي يتميز بأحادية الاتجاه، إذ يتدفق من الأعلى إلى الأسفل، من السلطة إلى الجماهير، بالإضافة إلى ضعف الاحترافية والمهنية في معظم وسائل الإعلام العربية، خاصّة المرئية منها، حيث أدى التحكم الرّسمي، يقول الدكتور، في وسائل الإعلام إلى ''نمو ما يسمّى بالرّقابة الذاتية عند الصحافي في الوطن العربي، مما قتل روح الإبداع والابتكار''. ولا يتعلق الأمر فقط بالصحفي، فمن الأسباب التي يذكرها الدكتور ضعف إدارة المؤسسات الإعلامية في الوطن العربي، حيث التركيز والاهتمام بالدرجة الأولى، على كسب رضا السلطة، ثم تحقيق الربح أو ضمان المعونة الحكومية. أضف إلى ذلك يوضح الدكتور ''أن المشرفين على المؤسسات الإعلامية، في الكثير من الدول العربية، لا يفقهون شيئا في الإدارة والتسيير، أو لا يعلمون أبجدية العمل الإعلامي''. ويستخلص الدكتور أنه نتيجة لضعف الإدارة انعدمت تقاليد العمل الإعلامي المحترف، وقيم الاحترافية الإعلامية، وسادت سياسة ملء الفراغ بالمضمون المقبول، الذي لا يزعج ولا يسبب مشاكل. كما يتأسف محمد قيراط لانعدام الرؤية المستقبلية والسياسات الإعلامية الواضحة والثابتة، ويضرب مثال ''اهتمام الدول العربية بالقنوات الفضائية والأقمار الصناعية، وتضاعف ساعات البث التلفزيوني، بينما تراجع الإنتاج''، واصفا حالة القنوات الفضائية ب''صناديق بريد توزع ما تنتجه أستوديوهات الصناعات الثقافية العالمية، وغيرها من الشركات المتعددة الجنسيات''. ويخلص الدكتور، في الأخير، إلى أن السلطة في الوطن العربي تنظر إلى وسائل الإعلام على أنها أداة لتثبيت شرعيتها، وبسط نفوذها، وتمرير خطابها السياسي، ولذلك يسيطر الطابع الرّسمي على الرسالة الإعلامية، فنشرات الأخبار في التلفزيونات العربية تكاد تتشابه، إذ تركز، وبأداء إعلامي روتيني، على النشاطات الرسمية، مع إهمال انشغالاتها الجماهير.