إنّ الانتقامَ مع ما فيه من القسوة والجبَروت فإنّما هو علامةُ ضعفٍ لا قوّةٍ، والضعفُ هنا يكمُنُ في أنّ الغِلظةَ والتّشفِّي لهُما السيطرةُ في قلبِ المُنتقِم على التّسامُح والاعتِدال، فمن هُنا صارَ المُنتقِمُ ضعيفًا؛ لأنّ سجِيَّة الشرِّ والحُمق والهوى هي الغالبةُ أمام نَزوَته ورغبته. فإذا اصطبَغَت النّفسُ بحبِّ الانتقام ووقعَت في شباكه؛ فإن الغِلظةَ والجَبَروت والبطشَ والإسرافَ والحَيف هي العلاماتُ البارِزةُ التي تحكُمُ شخصيةَ المرءِ الذي سيُشارُ إليه بالبَنَان على أنه رمزُ الظلمِ والنَّذَالة والوحشيَّة؛ لأن المعروفَ عن الانتقام أنه إنزالُ العقوبةِ مصحوبةً بكراهيةٍ تصِلُ إلى حدِّ السَّخَط والحقد والإسرافِ في العقوبة، الّذي يُفرِزُه جنونُ العظمة وحبُّ القهر، كما قال فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} غافر:29. لقد كان من أميَز سِمات سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ، وأنّ رِسالتَه إنّما هي رحمةٌ للعالمين، كما قال اللّه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء:107، وهذه الرّحمةُ والشَّفَقةُ واللِّينُ الّتي أزهَرَت في فُؤاد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم هي ما جعلَتْه يتلقَّى الثّناءَ من اللّه سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم:4، وقوله عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران:159. فالمُنتقِمَ، غالبًا، كالأعمَى، لا يُدرِكُ ولا يُحِسُّ إلاّ بنفسه، وإذا كان كذلك فإنّه ليس أهلاً للعدل ولا للإنصافِ؛ لأنّ همَّتَه في تحقيق هدفه وشفاءِ غيظه، ليس إلاّ، فهو عدوُّ عقله؛ لأنّه يشينُ حُسنَ الظَّفَر فيقبُحُ بالانتِقام دون أن يتزيَّن بالعفو أو القصد. كما أنّه بليدُ الإحساسِ، قد تجرَّدَ من العاطفة، إذا استُغضِبَ زَأرَ، وإذا زأَرَ افترَسَ، وإذا افترسَ أوجعَ، وإذا كان القتلُ يُعدُّ من أنكَى جِراحات الحياة، فإنّ اللّه جلّ وعلا قال فيه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} الإسراء:33. والآية الكريمة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} تدلّ على الانتِصار من الظالمِ، لكنّها في الوقتِ نفسِهِ بيَّنَت أنّ العفوَ أخيَرُ وأفضلُ، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّه} الشُّورى:40. ومَن أراد أن يلِجَ التّقوى من أسهل أبوابها فليعمل بقول اللّه جلّ وعلا: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} البقرة:237. وقد جرَت سُنّةُ اللّه أنّ مَن انتقَمَ مِمّن هو دونه انتقَمَ منه مَن هو فوقَه، وسُنَّةُ اللّه لا تُحابِي أحدًا. ولأجل هذا، فإنّ لذَّة العفو أطيبُ من لذَّة التّشَفِّي، وذلك أنّ لذَّة التّشفِّي يلحقُها ذمُّ النّدَم، ولذَّةَ العفو يلحقُها حمدُ العاقبة، وقد قال اللّه جلّ وعلا: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} الشُّورى:37، وهذا دليلٌ على أنّ الانتِقام يقبُحُ على الكِرامِ. وقال أبو إسحاق: ”ولم يقُل هم يقتلون، وفي هذا دليل على أنَّ الانتِقَام قبيح فِعْله على الكِرَام؛ فإنَّهم قالوا: الكريم إذا قَدِر غَفَر، وإذا عثر بمساءة ستر، واللَّئيم إذا ظفر عقر، وإذا أَمِن غَدَر”. ومِن الوسائل المعينة على ترك الانتِقَام: ^تَذَكُّر انتقام اللّه مِن أهل معاصيه: قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إبراهيم:5. قال ابن زيد في قول اللّه: [{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه} أيَّامه الّتي انتقم فيها مِن أهل معاصيه مِن الأمم، خوَّفهم بها، وحذَّرهم إيَّاها، وذكَّرهم أن يُصيبهم ما أصاب الّذين مِن قبلهم]. ^كَظْم الغَيْظ: قال اللّه تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران:133. ^الخوف مِن ضياع الزَّمان والعمر، وتفرُّق القلب وفَوْت المَصالح، بأن يعلم أنَّه إذا اشتغلت نفسه بالانتِقَام وطلب المُقَابَلة، ضاع عليه زمانه، وتفرَّق عليه قلبه، وفاته مِن مصالحه ما لا يمكن استدراكه. ^التَّفكير في عواقب الانتِقَام، ومنها: زيادة شرِّ الخصومة: فإذا انتقم لنفسه، تسبَّب إلى زيادة شرِّ خصمه، ومنها ما يُصيبه بعد الانتقام من النّدم. إنّ لذّة العفو وأجره أعظم من لذّة الانتقام، قال اللّه عزّ وجلّ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّه إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.