هذه القاعدة الإيمانية والحقيقة القرآنية وَردت في قول اللّه تعالى: {أَفَغَيْرَ اللّه أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ من رَبِّكَ بِالحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الأنعام:114-115. والمعنى العام للقاعدة: أنّ اللّه وحده لا شريك له، له الخلق والأمر حكمه الحقّ وقوله الصِّدق. وكلّ حكم للمخلوق فإنّه مشتمل على النّقائص والعيوب، والنّقائض والجور، وقد أنزل حكمه في الكتاب موضَّحًا فيه ما ينفع النّاس، وما يحتاجون لمعرفته من الأحكام الشّرعية، أصولًا وفروعًا، فلا بيان أعلى بيانه، ولا بُرهان أقوى من برهانه؛ لأنّ أحكامه مشتملة على الحكمة البالغة والرّحمة السّابغة. هذه هي الحقيقة الجُلّى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} أي: صدقًا في الأخبار، وعدلاً في التّشريع. صدقًا فيما قال، وعدلاً فيما حكم، فكلّ ما أخبر به فحقٌّ لا مرية فيه، وكلّ ما أمر به فهو العدل الّذي لا عدل سواه، وكلّ ما نهى عنه فباطل، فإنّه لا ينهى إلاّ عن مفسدة، فلا أصدق من أخباره، ولا أعدل من تشريعه، ولا أصلح من أحكامه، {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}. ومعنى {تَمَّت} في هذا الموضع: استمرّت وصحّت في الأزل صدقًا وعدلاً، وليس بتمام من نقص، فالتمام هنا بمعنى التحقّق والنّفوذ. وله أربعة أوجه محتملة: تمام حُجَجِهِ ودلائله. أو تمام أحكامه وأوامره. أو تمام إنذاره بالوعد والوعيد. أو تمام كلامه واستكمال صوره. وأمّا المراد بالكلمات فقيل: القرآن، وقيل: المراد قول اللّه، أي نفذ قوله وحكمه. وقيل: كلمات اللّه: أمره ونهيه، ووعده، ووعيده.. لكن السياق يشهد بأنّ تفسير الكلمات بالقرآن أظهر.. إنّها قضية جوهرية قرّرتها هذه القاعدة، هي فيصل التّفرقة بين المؤمنين بكون القرآن كلام اللّه وبين من يشكون في ذلك. فالمؤمن إذا قال اللّه عزّ وجلّ فقوله الصِّدق والعدل، ولم يبق عنده بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو مبدأ أو قيمة أو ميزان. ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم، أو عادة أو تقليد.. ولا معقب لحكمه ولا راد لقوله.. *إمام وأستاذ الشريعة بجامعة الجزائر أنشر على