مساهمة: أ. د. مصطفى باجو طالعتنا قناة (اقرأ) الفضائية قبل أيام بتغطية لمحاضرة تتحدث عن الإباضية. ضمن برنامج (كرسي العلماء) وذلك يوم الأحد 16 / 3 / 2014م. وعنوان المحاضرة (مِن فِقه الأحاديث الواردة في الخوارج)، للشيخ عبد اللاوي بلعيد ألقاها نيابة عنه الشيخ محمد حمة من الجزائر. وهي الورقة الأولى، ضمن الجلسة الأولى، في الندوة الإقليمية الثالثة: (الخوارج وبقاؤهم إلى زمن الدّجال)، والتي عُقدَت في عَمّان بالأردن في 30 - 31 / 10 / 2013 - مركز الإمام (أبو عبدالله) الشافعي العِلمي. وكان فيها حديث عن هذه الفئة من أهل الإسلام تنبزها بشتى الأوصاف التي يكفي بعضها لإخراج أهلها من دائرة التوحيد، ثم تجرأ بعضهم فحكم باستباحة دماء الإباضية، وأنه عمل مشروع، ومأجور. وتوالت سهام التهم، ورصاصات القتل تخرج من فمه تباعا،.... وأقف هنا، والعقل حائر في التوفيق بين تعاليم الإسلام وحقائق القرآن، وبين مسلسل السهام القاتلة والفتن الهوجاء التي تعصف بالمسلمين في كل البلدان. ثم أتساءل في حيرة وأسى شديد، عن هذا الذي ينتسب إلى أهل الإسلام، ويلبس لباس أهل العلم، ويتعمم بعمامة أهل الدين، ويبدو للناس في مظهر الداعية المخلص، الغيور على دين الله، وعلى حرمات الإسلام. ومحاربة البدع والمنكرات، ويدعو لإقامة الشرع وفق أحكام الله التي نص عليها القرآن وصحت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول لمن شارك في الحصة تحديدا، وللقناة الراعية لها، وهي تحمل شعار (اقرأ)، أقول لها ولهم: هل أدركتم معنى هذا الشعار الذي تحملون؟، وهل وعيتم لماذا جعله الله فاتحة وحيه المنزل يتلى إلى يوم الدين؟ (اقرأ باسم ربك الذي خلق)(العلق:1). لا ريب أن مثل هؤلاء يعلمون جيدا أن حضارة الإسلام حضارة (اقرأ)،. حضارة تقوم على العلم واليقين، وعلى التثبت والتبين، تهتدي بأمر الله الأول (اقرأ) وتلتزم نهجه المحكم: (فتبينوا) وتحذر عاقبة الحكم عن جهل وعدم برهان، وهي عاقبة وخيمة (أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (الحجرا:6). والمؤمن المستيقن برقابة الله يعي بحقِّ خطورة المسؤولية وعسير الحساب عندما يتذكر قول الحق عز وجل: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) (ق:18).. وقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفا}. وكم من كلمة يرسلها المرء لا يلقي لها بالاً، ثم تقرر مصيره الأبدي الوخيم، وبخاصة إذا أفضت إلى إزهاق نفس بغير حق، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {{من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوبا على وجهه: آيس من رحمة الله}}. والمساهمة في قتل نفس بريئة أمر عظيم، بينته السنة المطهرة: {{لهوان الدنيا أعظم عند الله من قتل نفس مؤمنة بغير حق}}.. ولذلك كان الجزاء عظيما بصريح آي القرآن: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعده له عذابا عظيما) (النساء:93). وواحسرتاه على مفكرين يوجهون أمتهم، ويحسبون روادا لا يكذبون أهلهم، ثم يرسلون تلك القنابل التدميرية، وكأنهم خارج التاريخ، لا علم بهم بما تعيشه أمة الإسلام من فتنة عمت ديار الإسلام مشرقا ومغربا، وأن أنفس المؤمنين تهفو إلى كلمة تحقن الدماء، وتضمد الجراح، في ظل تضاؤل الجهود المخلصة لرأب الصدع بعد أن تكالبت علينا الأمم في وحشية هستيرية نكراء... وهل يعقل أن نَصلَى بهذه النار، ويستغيث العقلاء، ويتعالى النداء إلى تضافر كل الطاقات الخيرة في الأمة لتدارك الوضع المآساوي الخطير، ثم تطالعنا هذه القناة بهذه الحصص النووية، لتدفعنا إلى مزيد من الأحزان، وتزهق بسببها الأنفس وتدمّر الأوطان. فلصالح مَن تعمل هذه القناة؟ ولأي هدف تسعى؟ ولأي قراءة تدعو بزرع هذه القنابل؟ إن الإباضية فئة مسلمة آمنت بربها والتزمت كتابه وسنة نبيه قولا وفعلا، وشهد لها التاريخ بتجسيد قيم الإسلام جملة وتفصيلا، ولكن أقلاما غير مخلصة سعت لتشويه سمعتها، وتلفيق تهم خطيرة ألصقت بها منذ القرون الأولى، ولا تزال الأجيال تتحمل أوزار هذه المظالم وألوان البهتان. والإباضية برآء من كل هذا، ولكن البغي والجهل والحسد حال دون قراءة حقيقتهم، ثم اتخذ أصحاب هذه الأراء من أقوال الرجال سندا تستباح بها حرمات الأبرياء، فسالت دماء وانتهكت حرمات، وأحرقت أموال ودمرت ممتلكات، بذريعة أن الإباضية خوارج، وأنهم كلاب النار، وأنهم أهل بدعة، وأن عقيدتهم زائغة، وأنهم مارقون من الدين، وأنهم يبغضون الصحابة، وأنهم ينكرون السنة، ويؤولون القرآن، وينكرون الإجماع، ويجيزون الخروج على الحكام، ويكفرون أهل القبلة، ويبيحون دماءهم في السر دون العلانية، ويبيحون الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وينكرون الرجم، وووووو قائمة طويلة من التهم والافتراءات أصبحت حقيقة لدى جمهرة أهل الإسلام من الخواص والمثقفين، بله الدهماء والعوام، يتناقلونها مسلمات قطعية، ويرددونها في التجمعات والمؤتمرات، وينشرونها عبر الكتب والمؤلفات، بل وترقى في أحيان كثيرة إلى أن تحملها الرسائل العلمية في الجامعات. وهي عن حقيقة (اقرأ)، بعيدةٌ بعدَ المشرق عن المغرب. إن أغلب هؤلاء الكاتبين لم يطلعوا على ما كتب الإباضيةُ أنفسُهم، ولا ما تحمله مؤلفاتهم من حقيقة أقوالهم وأصولهم، وما هو معتمد عندهم، وتمييزه عما هو منسوب إليهم أو منتحل غير صحيح النسب إليهم تاريخا أو أصولا أو تشريعا. ومن الإنصاف الإشارة إلى أن ثمة قضايا خلافية بين المسلمين، للإباضية فيها موقف مختار، اعتمدوا فيه على أدلة شرعية لا مجال فيها للتهاتر والتراشق، ولكن وللأسف فإن أغلب ما ينسب إليهم تُهمٌ لا سند لها، وأما ما له سند من الكتاب والسنة فإنه يُعرض مشوّها على شاكلة (ويل للمصلين) ليتم به مسلسل التهم والافتراء، وهو ما ينكره القرآن والسنة ويناقض أصول الشريعة الغراء. ثم تكون المأساة في الميدان أن يحكم بإخراج الإباضية من زمرة أهل التوحيد، وتستباح دماؤهم وأموالهم، ويفتى ببطلان الصلاة خلفهم، بل وأن تهدم مساجدهم، وهذا مسجل في كتب الفقه والفرق الإسلامية، بصور وأشكال يضيق عن توثيقها المقام، وهو مشاهد متكرر ينافح عنه أهله بكل افتخار وثبات، ولا تزال تردده وسائل الإعلام في عصر العولمة والفضائيات. ويحار العاقل حين يجد سعيا حثيثا من بعض العاملين في مجال الدعوة ونشر الإسلام إلى تشويه سمعة هذه الفئة البريئة، والإصرار على حشرها في زمرة الخوارج، ثم تحميلها تبعات أفعال الخوارج. وهم منها ومن أهلها برآء براءة الذئب من دم يوسف. ثم تكون الكارثة أن يستباح منهم كل شيء باسم الدفاع عن الإسلام وعن الكتاب والسنة؟ ويتساءل المنصف في حيرة وحسرة قائلا: خبّروني بربّكم: من هم الخوارج الحقيقيون؟ أهم الإباضية؛ والحال أن كتبهم وتاريخهم يشهد أنهم من هذه التهم بريئون؟ أم هم الذين ارتكبوا أفعال الخوارج فكفّروا إخوة لهم في الدين، واستباحوا دماءهم وأموالهم بغير حجة ولا يقين؟ ألا يصدق في مثل هذه المهازل المثل القديم: (رمتني بدائها وانسلّتِ)؟. ومن باب التوقع أن تصدر على هذا القول ردود، ويثار شغب وحملات بلا حدود، وتتوالى السهام بالإنكار والتفنيد. ولكن لن ينفع هذا شيئا أمام الواحد الديان. وسوف تنجلي الحقيقة يقينا للعيان، حين يقف الجميع معزولين عن حماية الأتباع والمراتب والسلطان، وتسقط أقنعة الدفاع التي قامت على العصبيات والمذهبيات والآباء والمصالح وتسترت بستار الدين، يوم يعرض السؤال العسير: ما حجتك يا أيها المفتي الوقور، ويا أيها الْمؤتَمن على دين الله حين أصدرت لأتباعك هذه الفتاوى، وشرعت لهم هذه الأحكام؟ وما تقول لربك حين أزهقت نفسا مؤمنة بغير حق؟ وما تقول لنبيك حين نهاك عن الدماء والأموال في خطبة الوداع؟ وهل تجد لك مخلصا من وعيد الله حين أسهمت في إراقة هذه الدماء، وإهلال الحرث والنسل ونشر الفساد في الأرض؟ وما جوابك لربك حين فتنت الناس عن الإسلام، وجعلت دينك هزؤا بين الناس، حين وجدوه بسبب فتواك دِينًا يستبيح دماء أتباعه، ويجعل حرب المسلمين لإخوانهم مقدَّمًا على حرب أعدائهم؟ هل وعى هؤلاء الْمُفْتُون، الفتّانون، المستبيحون للدماء، فظاعةَ جرمهم بهذا الإفتاء، وخطر ما يقدمون من هدية للشيطان ولأعداء الإسلام؟ هل أدركوا أنهم جنود مسخرة لخدمة أعداء الأمة من حيث يشعرون أو لا يشعرون؟ أترك لقناة (اقرأ)، ولمن يسعى في تأجيج هذه النار، تقديم الجواب عن هذه الأسئلة بصدق وبصيرة، حتى يحدد كل واحد مصيره. ولكن قبل الجواب أرجو أن يقرأ كل واحد بإمعان، حقائق القرآن، ويستوعب هذا الكتاب كما أمر منزل القرآن، ويقرأ الإسلام في أحكامه ومبادئه ومقاصده كما بيّنه وطبقه المصطفى وصحابته الكرام، وأن يقرأ حقيقة الإباضية من خلال تاريخهم ومسيرتهم ومصادرهم بموضوعية وإنصاف، وأن يعدّ الجواب لله يوم الحساب العسير، يوم يسقط كل ادعاء، فلا يجدي أي تبرير أو إرضاء للجماهير. ثم إني بعد هذا كله، لا أنتظر جوابا شخصيا، فلست حاكما ولا محاميا ولا قاضي تحقيق؟ ولكن ليُعِدَّ كلٌّ واحد منّا الجواب في ذلك اليوم الذي تشيب فيه الولدان، يوم لا ينفع ندم ولا مسامحة ولا استعتاب.