على مدار خمسة أسابيع، تناوبت أحزاب سياسية وشخصيات وكفاءات وطنية قاربت 150 شريكا، مقربة في أغلبها من السلطة، على طاولة مدير ديوان الرئاسة أحمد أويحيى، للإدلاء بمقترحاتها حول مسودة الدستور المعروضة للنقاش، في مشهد انتهى رسميا، أمس، وسط غياب قطاع واسع من معارضة فضلت المقاطعة تشكيكا منها في جدية هذه المشاورات التي أعقبت استشارتين سابقتين. لم تخرج مقترحات الأحزاب السياسية التي استمع إليها المكلف بمشاورات الدستور، عن نطاق ما بات مألوفا في دساتير العالم، من دعوة لتعزيز استقلالية القضاء، والفصل بين السلطات، والمطالبة بتوضيح معالم نظام الحكم في الجزائر، وتكريس الحقوق والمساواة بين الجنسين في الدستور، لذلك جاءت المقترحات في مجملها مستنسخة ومكررة، يتلوها حزب اليوم ويأتي آخر ليرددها غدا. وفي المجمل، توافقت جل الأحزاب والشخصيات على المطالبة بتضمين نقاط بعينها في الدستور، على غرار تمكين الأغلبية النيابية من الوزارة الأولى، والإبقاء على النظام شبه الرئاسي المكرس حاليا لكن بسلطات مختلة بين الرئيس وباقي المؤسسات في الدولة، كما دعت الكثير من التشكيلات السياسية إلى إنشاء محكمة دستورية بدل مجلس دستوري، ورافعت تشكيلات أخرى لدسترة المصالحة الوطنية، خاصة من تلك المقربة من الرئيس التي تريد وضع بصمته في الدستور. كما أبانت مشاورات الدستور التي قاربت ال 40 يوما، عن تغير واسع في نظرة أحزاب السلطة إلى مسألة ترسيم الأمازيغية في الدستور، فانقلبت هذه الأحزاب التي كانت من أشد المعارضين، بالأمس، لهذا المطلب بدواع إيديولوجية وأحيانا موضوعية، إلى مبادرين اليوم إلى ترسيمها أو مزيد من ترقيتها، مثلما جاء في مقترحات جبهة التحرير الوطني وتجمع أمل الجزائر والتجمع الوطني الديمقراطي. ورغم كثرة الأحزاب المشاركة في المشاورات، إلا أن مجملها ظهر مجهولا للجزائريين، خاصة أن اعتمادها كان في فترة أعقبت “إصلاحات الرئيس” التي اضطر إليها بسبب الاضطرابات التي كانت تهز الدول المجاورة تحت “مسمى الربيع العربي”. وبدا الأسبوع الأخير من المشاورات، محاولة من هذه الأحزاب لتسويق نفسها للرأي العام، من خلال التغطية الإعلامية التي تحظى بها في نشرات الثامنة، أكثر منه تقديم اقتراحات خاصة بتعديل الدستور. وجاءت المفاجأة عند المعارضة التي قاطعت المشاورات، من مشاركة حزب جبهة القوى الاشتراكية في المشاورات، بعد أن أبقت ذلك مبهما إلى اللحظة الأخيرة. ورأت الكثير من التحليلات أن الأفافاس يريد لعب دور الوسيط بين السلطة والمعارضة، خاصة أنه ذهب للمشاورات ليس لتقديم اقتراحاته ولكن لعرض مشروع كامل تحت مسمى “الإجماع الوطني”، بعد أن شارك في ندوة المعارضة بمازافران التي نظمتها تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي المقاطعة للمشاورات. واللافت في ما اصطلحت عليه لدى رئاسة الجمهورية “الشخصيات الوطنية”، أن معظمها اختير من الدائرة التي زاولت مهام تنفيذية أو وزارية في السلطة، بحيث يغيب عنها تماما النفس المعارض الذي يتطلبه مشروع إعداد دستور للبلاد، يراد له أن يكون توافقيا بين مكونات وحساسيات المجتمع الجزائري. وغاب من الشخصيات مولود حمروش وسيد أحمد غزالي، بينما شارك الأخضر الإبراهيمي ورضا مالك، دون أن يظهرا بالصوت والصورة. كما حاولت أطراف كثيرة في المشاورات الحصول على امتياز في الدستور القادم من خلال المطالبة بالدسترة، حيث طالب محمد الصغير باباس رئيس المجلس الاجتماعي والاقتصادي بدسترة هيئته في الدستور، ودعا بالمثل الطيب الهواري الأمين العام للمنظمة الوطنية لأبناء الشهداء بدسترة “المجلس الأعلى لحماية الذاكرة الوطنية”، في حين دعت منظمات طلابية إلى إنشاء “مجلس أعلى للشباب”، بينما شددت جمعية العلماء المسلمين أن اقتراحاتها المتعلقة بالدستور القادم تصب في خدمة الثوابت والدفاع عنها. ومع أن مسلسل المشاورات حظي بتغطية إعلامية واسعة في الإعلام العمومي، إلا أنه لم ينجح في تحقيق صدى كبير في الشارع، حيث يظل موضوع الدستور بعيدا عن اهتمامات المواطن البسيط، في حين يبدو مدير ديوان الرئاسة أحمد أويحيى، الأكثر استفادة بعد أن عاد إلى الواجهة وبات الشخصية السياسية الأكثر مرورا على نشرات الثامنة.