سُؤل الكاتب والصحفي الفرنسي جون دانيال بنسعيد، رئيس تحرير المجلة الفرنسية “نوفال ابسرفتور”، عن النصيحة التي يمكن أن يوجهها للشاب أو الفتاة التي تريد أن تكون صحفية. كانت إجابته كالتالي: يجب عليه أن يتقن ثلاث لغات على الأقل. ويعرف موضوعا ما خير معرفة، حيث يكون الوحيد تقريبا الذي يدركه أفضل من غيره. ويختار، إن امتلك الحق في ذلك، شهر جويلية أو أوت؛ أي فترة الصيف، للانطلاق في العمل الصحفي. ويواصل حديثه قائلا: منذ فترة قصيرة جاءتني فتاة تريد العمل بمجلتنا. فتاة جميلة، وذكية وودودة، تشع حيوية ونشاطا. أخبرتني أنها مسكونة برغبة الذهاب إلى الشيلي. ويستطرد قائلا: فسألتها هل تعرفين بابلو نيرودا. فكان ردها بالنفي. ثم يردف: وغبريلا مسترال. ولا هذه أيضا. فيجيب عن سؤاله قائلا: إن قبريهما في الشيلي متقاربان وقد نالا جائزة نوبل للأدب. فيقول جون دانيال. لقد ردت الفتاة علي قائلة: وما الفائدة من معرفتهما؟ فرد عليها قائلا: إن الأمر بسيط جدا، فروح الشعوب التي تبحثين عنها في الشيلي لم يصفها سوى الأدباء. فالأدب هو روبورتاج صحفي يذهب إلى أبعد من الروبورتاج. فإذا أردت أن تكوني صحفية فيجب عليك قراءة ما يكتبه الأدباء. أعرف أن الكثير من الصحفيين لا يشاطرون هذا الرأي. ويشاركهم في ذلك عدد غير قليل من الذين يسعون، جاهدين، ليصبحوا صحفيين في المستقبل. إنهم يعتقدون أن السياسة هي الوجه الآخر للإعلام وليس الأدب، وعلى الصحفي أن يكون سياسيا قبل أن يكون صحفيا. إنني أتفهم جيدا وجهة النظر هذه، فهي ثمرة عدة عقود من الزمن رسخها تكوين الصحفيين الذي اغتصبته العلوم السياسية، وشرعته الحرب الباردة، فرسخت لدى الجميع الفكرة التي مفادها أن وسائل الإعلام أبواق دعائية لا غير، وربما لم تتحرر من هذه الفكرة لحد الساعة. بل حتى أصحاب القرار السياسي تبنوا وجهة النظر هذه، لأنهم لا ينظرون إلى وسائل الإعلام إلا من “خرم” السياسة، لذا لا يولون أي اهتمام سوى لنشرة الأخبار التي يبثها التلفزيون، والتي يريدونها أن تكون مرآة لصورهم وصدى لصوتهم، أما مدة البث التلفزيوني الباقية فلا تهمهم. ويتجاهلون أن جمهور المسلسلات والأفلام الوثائقية والروبورتاجات الصحفية، يتعدى جمهور نشرة الأخبار بالملايين. ويمكن الإشارة في هذا المقام إلى أن النقاد عللوا إخفاق رئيس الحكومة الفرنسية السابق “دنيال جوسبان”، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية أمام منافسه الرئيس جاك شيراك، برفضه المشاركة في البرنامج التلفزيوني الذي يعده ويقدمه النجم التلفزيوني”ميشال دروكير”، والذي يجمع بين السياسة والثقافة والتاريخ والموسيقى والإعلام. حتى وإن وجدنا في هذا التعليل نوعا من المبالغة التي تضخم الدور السياسي للتلفزيون، فإنه يؤكد، على الأقل، ما أصبح جليا: أن الجمهور لا يتصور أن التلفزيون حزب سياسي. قد يحتج البعض بالقول إن الكتابة الصحفية تختلف كليا عن الأدب في الشكل والمحتوى، والصحفي لا يملك الحرية التي يتمتع بها الأديب، سواء في مضمون ما يكتبه أو مدة إنجازه وحجمه، وهذا أمر لا خلاف حوله. لكن الأدب يزود الصحفيين بمعرفة أعمق للبشر وعلاقاتهم ببعضهم البعض، ويغوص بهم في أعماق المجتمعات، ويشحذ وعي الشخص بإنسانيته التي حرمته منها السياسة وحولته إلى مجرد أداة تحركها آلة الانتخابات. إن من أوصى الفتاة المذكورة أعلاه يبلغ الرابعة والتسعين من العمر. سلخ أكثر من ستين سنة منه في العمل الصحفي، كاتبا للافتتاحيات التي يعتقد البعض أنها بعيدة كل البعد عن الأدب. إنه يبدد هذا الاعتقاد بالقول إنه لم يفصل أبدا الصحافة عن الأدب، ولا عن التاريخ والفلسفة. فكتابته تفيض بأفكار الفلاسفة وأقوال أبطال الروايات والصور الشاعرية التي تريد الارتقاء بفكر المجتمع، وبه تسمو الممارسة السياسية المفعمة بالحياة. فعندما حل هذا الصحفي بالبرتغال دعاه الكاتب البرتغالي الكبير انطونيو لوبو انتين إلى بيته وأدخله مكتبته، فأظهر له كل المقالات التي نشرها في مجلة “لكسبرس” عن الثورة الجزائرية طيلة السنوات السبعة مجلدة! وخاطبه قائلا: كنا ننتظر مقالك كل أسبوع، وكأننا ننتظر فصلا جديدا من رواية، إنها رواية الحرية والكفاح ضد الاستعمار، الرواية التي ألهمت ثورة القرنفل التي اندلعت في أفريل 1974 لتطيح بديكتاتورية “سالازار” الذي حكم البرتغال منذ 1933.