شرعت محكمة الجنايات بالجزائر العاصمة، أمس، في محاكمة المتهمين في قضية الطريق السيار، دون أن تعترضها العوائق التي أدت إلى تأجيلها مرتين، فحضر جل المحامين المتأسسين في القضية، وتشكلت هيئة المحكمة من قضاة ومحلفين، وشرع في تلاوة قرار الإحالة المتضمن للاتهامات، ما يعني أن الحكم المنتظر منذ 6 سنوات سيصدر في غضون أيام. بدا القاضي هلالي الطيب، وهو يفتتح محاكمة قضية الطريق السيار، أمس، عازما على مواصلة أطوار المحاكمة إلى آخرها، بعد أن غرقت خلال الجلستين السابقتين في إجراءات شكلية أدت إلى تأجيلها، فشرع مسرعا في المناداة على المتهمين الموقوفين، مجدوب شاني ومحمد خلادي وحمدان سليم رشيد وعدو سيد أحمد، وأكمل البقية من غير الموقوفين والشركات الأجنبية. 150 صفحة من الاتهامات ! لكن المفاجأة كانت في الغياب المتكرر لشاهدين هما أسامة، ابن وزير الدولة السابق أبو جرة سلطاني، وحميد ملزي، مدير إقامة الدولة، رغم تعهد القاضي باستعمال القوة العمومية في إحضار الشهود. فكيف مر عليه أنهم لا يحضرون للمرة الثالثة ؟ يردد أحد محامي الدفاع وهو ينفث دخان سيجارته في بهو المجلس! لم يلبث القاضي سوى دقائق حتى شرع في قرعة اختيار المحلفين، وهم مواطنون يتم اختيارهم للمشاركة في إصدار الحكم الذي يصدر باسم الشعب. استقرت القرعة على اسمين، وتلي قسم المحلفين الملزمين، وفق القانون، بأقصى درجات التحفظ ويلزمهم بالمبيت في فندق وتصادر أجهزة هواتفهم حتى يكونوا بعيدين عن كل شبهة تأثير. كان ذلك آخر إجراء يكتمل به نصاب المحكمة، فأعلن مباشرة عن تنصيب هيئتها. أذن القاضي لأمين الضبط بتلاوة قرار الإحالة. كتاب ضخم يضم بين دفتيه أكثر من 150 صفحة، ويحتوي كافة الاتهامات الموجهة إلى المتهمين مما ظهر من اعترافاتهم أثناء التحقيقات التي قامت بها الضبطية القضائية التابعة لجهاز الأمن والاستعلام، وتلك التي قام بها قاضي التحقيق في القطب الجنائي بعد تحويل المتهمين إليه. “شاني أخذ 4,09 بالمائة من قيمة الشطر الغربي للسيار” يرسم قرار الإحالة، عند تلاوته، في الذهن شريطا عن الوقائع والأحداث التي صنعت فضيحة الطريق السيار. يتكرر على لسان أمين الضبط، عشرات المرات، اسم المتهم الرئيسي مجدوب شاني وكيفية نسجه علاقات مع إطارات سامية في الدولة وفي وزارة الأشغال العمومية، حتى يقوم بدور الوسيط لشركة “ستيك” الصينية التي فازت بالشطر الغربي للصفقة. مجدوب شاني، وفق الاتهامات المنسوبة إليه، ربط علاقة مع الأمين العام لوزارة الأشغال العمومية، محمد بوشامة، واتخذ للوصول إليه وسطاء آخرين، منهم العقيد خالد ومدير إقامة الدولة حميد ملزي. شبكة متداخلة وملتوية سمحت لشاني أخيرا بأن يصل إلى مبتغاه وينسج علاقة قوية مع من كان يريد، والوسيلة كانت الإرشاء والهدايا، مقابل ذلك كان المتهم الرئيسي يوثق علاقاته مع “ستيك” عبر علاقة حميمية مع ابنة مدير المجمع الصيني. مكنه ذلك من الحصول في الأخير على نسبة مئوية من قيمة المشروع تعادل 4,09 بالمائة، استطاع تبييضها عبر إنشاء شركات وهمية في هونغ كونغ وعدد من الجنات الضريبية. عمولات شاني فاقت 30 مليون دولار. وكان، نظير ذلك، يتدخل لإنقاذ المجمع الصيني من كل العراقيل البيروقراطية التي غرق فيها بالجزائر. أما هو فكان يستمع للاتهامات الموجهة إليه، وهو متكئ على كرسيه في الحيز المخصص للمتهمين، مطأطأ الرأس لا يكاد يظهر. عندما أتيحت له الفرصة للحديث في الجلسة السابقة، بكى وقال للقاضي: “لقد جعلوني أعترف بأن لي خليلة، سيدي القاضي، تحت وطأة التعذيب”. وكذلك يقول محاموه إن كل الاعترافات التي أدلى بها شاني لا أساس لها، لأن خروقات منافية لحقوق الإنسان شابتها، وقدموا شكوى بذلك إلى هيئات دولية، بينما ينتظر أن يستجوب القاضي شاني مجدوب على ما نسب إليه من اتهامات اليوم. تراشق بين القاضي والمحامي سيدهم بسبب صفة “العقيد” يواصل أمين الضبط التلاوة ويمر على اسم “العقيد خالد”.. يكرره في جملة أخرى، فيستوقفه القاضي: “لا تقل العقيد خالد. عقيد على نفسه ليس عقيدا عندي. أنا قاض فوق الجميع.. ولسنا هنا في محكمة عسكرية”. ملاحظة القاضي استفزت محامي دفاع شاني، أمين سيدهم: “ما دام مذكورا اسمه في قرار الإحالة ينطق كما هو. لا يجوز تغيير قرار الإحالة الذي هو قرار غرفة الاتهام”. يرد القاضي: “أنا من يسير الجلسة ولست أنت”، فيطلب المحامي من أمين الضبط إعطاءه إشهادا بأن القاضي يريد تغيير ما ورد في قرار الإحالة. أراد القاضي، حسب محامين، أن يعطي إيحاء للمتهمين وهيئة الدفاع بأنه أعلى سلطة بين جدران القاعة التي تجري فيها المحاكمة، بسبب حساسية القضية وتداخلها مع مؤسسات سيادية في الدولة، مثلما أراد أيضا أن يرد على ما ردده محامو شاني في وسائل الإعلام من شكوك بأن الحكم قد يكون جاهزا ومحضرا. لكن المحامي أمين سيدهم، الذي كان غاضبا ومستفزا جدا من تدخل القاضي، رأى العكس، وقال في بهو المجلس إن القاضي يريد إبعاد صفة “العقيد” عن المتهم، وهو يعلم جيدا أن قرار الإحالة لا يمكن له أن يغير القاضي فيه مجرد فاصلة. بحث في فائدة بوردون وبينيغ! غيابهما أثار الجدل، لكنه جعل الجلسة تمر بهدوء. إنهما المحاميان الأجنبيان، الفرنسي وليام بوردون واللوكسمبورغي فيليب بينيغ. يعيد زميلهما في الدفاع المحامي محند بلعريف ما قاله ل”الخبر”، بأنهما فضلا عدم المجيء للجلسة الأولى تجنبا للإشكالات التي صنعها تدخلهما أثناء الجلسة السابقة. “الزميلان تعرضا لكلام عنصري وتدخل غير مقبول من نقيب المحامين، فقررا عدم الحضور، لكنهما لم يسحبا تأسسهما من الدفاع وسيظهران لاحقا عندما تبدأ المرافعات”. على بعد أمتار من بلعريف، كان يقف المحامي خالد برغل الذي هاجم المحاميين الأجنبيين بشدة في الجلسة الماضية. يقول برغل إن ما قام به هو “دفاع عن مؤسسة سيادية” (المخابرات)، وأنه لن يتوانى في تكرار ذلك مستقبلا في حال “تطاول” هؤلاء على الجزائر، بينما ينفي أنه هاجمهما لأنهما أجنبيان. كان الجميع هادئا البارحة. القاضي كما المحامون. فقد استنفدت معركة الإجراءات الشكلية طاقتهم في الجلستين السابقتين، وجعلتهم يستسلمون لقدر الاستمرار في المحاكمة، ثم الاستماع لساعات طويلة لقرار الإحالة، قبل أن يبدأ الصخب من جديد، اليوم، باستجواب المتهمين والاستماع إلى مرافعات الدفاع وردود النيابة العامة.. في انتظار أن ينطق القاضي هلالي بالحكم وينهي فصول إحدى أكبر فضائح الفساد التي هزت الجزائر.