يقول الحقّ سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} الزُّخرُف:32، لقد فاضل ربّنا سبحانه بين عباده في الشّرف والجاه، والعلم والعبادة، وسخّر بعضهم لبعض ليتحقّق الاستخلاف وتعمر الأرض. ففي شكوى الفقير ابتلاء للغني، وفي انكسار الضعيف امتحان للقوي، وفي توجّع المريض حكمة للصّحيح، ومن أجل هذه السُّنَّة الكونية جاءت السّنّة الشّرعية بالحثّ على التّعاون بين النّاس، وقضاء حوائجهم، والسّعي في تفريج كروبهم، وبذل الشّفاعة الحسنة لهم، تحقيقًا لدوام المودة، وبقاء الألفة، وإظهار الأخوة. يقول ابن القيم رحمه اللّه: “وقد دلّ العقل والنّقل، والفطرة وتجارب الأمم، على اختلاف أجناسها ومللّها ونِحَلها، على أنّ التّقرّب إلى ربّ العالمين والبرّ والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكلّ خير، وأنّ أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكلّ شرّ، فما استجلبت نعم اللّه واستدفعت نقمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه”. ونفع النّاس والسّعي في كشف كروبهم من صفات الأنبياء والرّسل، فالكريم يوسف عليه السّلام مع ما تعرّض له من مكر إخوته، جهّزهم بجهازهم، وموسى عليه السّلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أُمَّةً من النّاس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين فسقى لهما، وخديجة رضي اللّه عنها تقول في وصف نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم: “واللّه لا يخزيك اللّه أبدًا، إنّك لتَصِل الرّحم، وتحمِل الْكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ”. وأشرف الخلق صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا سئل عن حاجة لم يرد السّائل عن حاجته، يقول جابر رضي اللّه عنه: “ما سُئل رسول اللّه شيئًا قطّ فقال: لا”. وعلى هذا النّهج القويم سار الصّحابة والصّالحون، فقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يتعاهد الأرامل، يسقي لهنّ الماء ليلًا، وهكذا كان غيره الكثير من السّلف والصّالحين على النّهج. إنّ خدمة النّاس ومسايرة المستضعفين دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل وصفاء السّريرة وحسن السِّيرة، وربّنا يرحم من عباده الرُّحماء. وللّه أقوام يختصّهم بالنِّعم لمنافع العباد، وجزاءُ التّفريجِ تفريجُ الكربات وكشف الغموم في الآخرة، في الصّحيح يقول المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم: “مَن نفَّس عن مؤمن كُربة من كرب الدّنيا، نفَّس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة”. إنّ السّاعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة، مؤيّد بالتّوفيق، واللّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، واعلم أيّها الفاضل: أنّ في خدمة النّاس بركةً في الوقت والعمل، وتيسير ما تعسَّر من الأمور، يقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: “مَن يسَّر على معسر يسَّر اللّه عليه في الدّنيا والآخرة”. ببذل المعروف والإحسان تحسن الخاتمة، وتصرف ميتة السّوء، يقول عليه الصّلاة والسّلام: “صنائع المعروف تقي مصارع السُّوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدّنيا هم أهل المعروف في الآخرة”. في بذل الجاه للضعفاء ومساندة ذوي العاهات والمسكنة نفع في العاجل والآجل، يقول صلّى اللّه عليه وسلّم: “رُبَّ أشعث أغبر، مدفوع بالأبواب، لو أقْسَم على اللّه لأبَرَّه”، ومَن للضعفاء والأرامل واليتامى بعد المولى؟! بدعوة صالحة منهم مستجابة تسعد أحوالك، والدّنيا محن، والحياة ابتلاء، فالقويّ فيها قد يضعف، والغني ربّما يفلس، والحيّ فيها يموت، والسّعيد مَن اغتنم جاهه في خدمة الدّين ونفع المسلمين. والمعروف ذخيرة الأبد، والسّعي في شؤون النّاس زكاة أهل المروءات، ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد النّاس لهم في حوائجهم، يقول حكيم بن حزام رضي اللّه عنه: “ما أصبحتُ وليس على بابي صاحب حاجة إلّا علمتُ أنّها من المصائب”، وأعظم من ذلك أنّهم يرون أنّ صاحب الحاجة متفضّل على صاحب الجاه حينما أنزل حاجته به، يقول ابن عباس رضي اللّه: “ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسّلام، ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليّ إرادة التّسليم عليّ، فأمّا الرابع فلا يكافئه عنّي إلّا اللّه، قيل: ومَن هو يا ابن عم رسول اللّه؟ قال: رجل نزل به أمر، فبات ليلته يفكّر بمَن ينزله، ثمّ رآني أهلًا لحاجته فأنزلها بي”. إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي براقي