رأيت للصراع الجاري حاليا حول المنظومة التربوية، بفعل ارتفاع أصوات تتهم أطرافا عصرية حداثية بأنها تريد “تخريب المدرسة الجزائرية”، وتسعى لإبعادها عن المقومات الوطنية، عبر فرنستها، وإضفاء الطابع العصري عليها، من زاوية الصراع بين الحداثة والتقليد، واستخلصت أن التقليديين كثيرا ما يتخوفون، ويتوجسون، بل ويتحسسون من المسؤولين ذوي الهيئات العصرية والتوجهات الحداثية ويطمئنون في المقابل ويرتاحون لمن يخرج عليهم بأفكار تقليدية وتصورات تعارض العصرنة، وتنغلق على نفسها في خطاب الهوية الضيق. فالتقليديون، حتى وإن تظاهروا بالعصرنة، ووضعوا ربطات العنق، ينعتون العصريين ب«الذين زاغوا”. مازلنا إلى اليوم نشهد صراعا رهيبا بين السير شرقا أو غربا (ولا أقصد هنا الغرب أو أوروبا، بل أقصد التوجه المغاربي الإفريقي). وفي خضم التفكير في هذه المسألة، وأنا أتابع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مدى الحقد الذي يبديه التقليديون وعموم العوام، وحتى النخبة الأصولية، لكل ما هو عصري، تذكرت حالنا أثناء تثاؤب الفكر الوطني والتحول نحو الخيار الثوري الراديكالي، فارتسمت في ذهني هذه الصورة، وهي أن جماعة الستة التي فكرت، وخططت، واستعدت، ونفذت لحرب التحرير، لم يكن بينها تقليدي واحد، وأقصد بالتقليدي هنا ذوو العمائم من أصحاب الخطاب الهُوياتي الذي يطمئن القلوب بخطب دينية وتصورات محافظة. لقد غاب هؤلاء عن اللحظة التاريخية، ولم ينضموا إليها إلا بعد أشهر طويلة من اندلاع الثورة. والملاحظ هنا أن الميول العصرية لجماعة الستة هي التي صنعت اللحظة التاريخية الحاسمة التي فجرت الثورة، وشكلت الوعاء الوطني الذي انضم إليه أصحاب العمائم وكل التقليديين القادمين من جمعية العلماء المسلمين، وليس التصورات التقليدية البالية التي بقيت راضية بالقضاء والقدر. فروح العصر والأفكار الحديثة هي التي ساهمت في تفجير الثورة، وأذكر هنا أن من بين أهم الكتب التي كان يحملها معه المرحوم محمد بلوزداد، في ترحاله، كتاب “سيكولوجية الجماهير” للفرنسي “غوستاف لوبون” (وهو أحد المدافعين عن الحضارة العربية بالمناسبة، وله كتاب في هذا الموضوع). ويذكر الراحل عبد السلام حباشي في مذكراته أن بلوزداد كان يحرص حرصا شديدا على أن يقرأ أعضاء منظمة “لوس” هذا الكتاب لما يحوزه من قدرة للتأسيس لعلم النفس الجماعي، ويعلم طريقة وكيفية كسب ود الجماهير، وطريقة حملهم على الثورة على الاستبداد. كما يغوص في فهم أعماق نفسية الجماهير وتقلباتها، وكيفية حراكها وتفكيرها. ولسنا ندري ما هي الكتب التي كان يطالعها أعضاء “لوس”، لأننا لم نكتب بعدُ تاريخ حرب التحرير من زاوية فكرية وثقافية، وتركنا أنفسنا ننساق وراء تاريخ المعارك. وهذه إشكالية أخرى، سبق لي أن تطرقت إليها في كتابي حول فرحات عباس. وبالعودة إلى الموضوع، أقول مجددا إن التقليديين يتخوفون من كل ما هو عصري، وينساقون وراء الخطابات الهُوياتية التقليدية التي يتخيلون أنها هي الوحيدة القادرة على تخليصنا من الظلال، وإخراجنا من المتاهة. بل وأكثر من هذا، نجدهم يتخيلون أن الشخصيات التقليدية أو تلك القادمة من أوساط مماثلة، هي التي تملك القدرة على الحل والعقد، بينما ينظرون إلى العصريين والحداثيين بأنهم أعداء الدين أولا، وهي التهمة الجاهزة، ورافضون للتقاليد ثانيا، وينعتونهم بالعلمانيين، والمندسين الذين يرغبون في تحطيم النسيج الاجتماعي، وتبلغ بهم البصيرة العمياء حد الترويج لتهم واهية ومعادية للسامية مثلما يحدث هذه الأيام مع وزيرة التربية، فيهرعون (أي التقليديون) عن بكرة أبيهم لحماية المدرسة التي يعتبرونها بمثابة قلعة يمنعون عنها كل التصورات العصرية. وهذا التقليد الهُوياتي المنغلق، وهذا بيت القصيد، يتحول في كثير من الأحيان إلى وسيلة ضغط ومناورة تلجأ إليها أطراف معينة لها نوايا سياسية أو مصالح نفعية، للدفاع عن تواجدها وتمركزها. وتدرك هذه الجهات تمام الإدراك أن خطاب التقليد عبارة عن وسيلة تمنحها القدرة على الحفاظ على مواقعها، والإبقاء على مكتسباتها. وبينما يعتقد عامة الناس أنهم بصدد خوض معركة حاسمة من أجل التقليد وحماية الأصالة، تُحقق جهات أخرى (من ذوي المنافع) مصالحها بواسطة تأجيج هذا الصراع الذي يجعل من العصرنة والحداثة وروح العصر مظاهر دخيلة يجب محاربتها.