كانت سيارات الشرطة التي استفزت مهرعة إلى المكان المشؤوم في صبيحة يوم بارد، مطلقة العنان لأبواقها لتكسر هدوء المدينة وسكونها على غير العادة.. ولم يمض وقت طويل حتى انكشف السبب وبان الأمر الذي استدعى كل هذا العدد من المحققين وأعوان الشرطة، يتقدمهم وكيل الجمهورية لدى المحكمة وخبراء الشرطة العلمية بزيّهم الأبيض. الأمر يتعلّق بجريمة قتل سرعان ما انتشرت بعض تفاصيلها الأولية مثلما تنتشر النار في الهشيم.. لقد تم العثور على جثة مشوهة يزمع أنها لطفل لم يبلغ الحادية عشرة من العمر؛ هذا ما وصل مسامع بعض الفضوليين الذين أحاطوا بالمكان وظلوا يشاركون المحققين السير الحثيث لعملية المعاينة، لكن من بعيد.. وما هي إلا ساعة من الزمن حتى أمر وكيل الجمهورية بإجلاء الجثة إلى مستشفى كويسي بلعيش وسط المدينة، وأصدر الأوامر بمباشرة التحريات لتعرية وجه القاتل المتوحش الذي تجرد في لحظات من آدميته ليزهق روح طفل أعزل وبريء. خيط البداية وأم مفجوعة كان خيط البداية إحضار امرأة كانت بلّغت قبل يومين عن الاختفاء المفاجئ لابنها، وكانت الصدمة عندما تعرفت على فلذة كبدها، حيث كانت حتى آخر لحظة تمنّي النفس بعودته من جديد إلى المنزل لمواصلة العيش بمعية باقي إخوته. كانت الجثة مشوهة إلى الحد الذي يكون سرى في اعتقاد بعض أفراد الشرطة العلمية الذين كانوا في عين المكان أن الضحية يكون وقع في يد أحد مصاصي الدماء، وليس بشرا فيه شيء من مضغة القلب تخفق.. فيما حاول البعض تأويل ما شاهد على أن الأمر يتعلق بجريمة مرتكبة بدافع الشعوذة وطقوس السحر، وأن بعض السحرة اقتلع عيني الطفل أسامة للغرض ذاته الذي يذهب إليه هؤلاء لاستعماله، لكن التخمينات سرعان ما زالت وبقي ذلك الاستياء والغضب المتفجر على الجاني الذي طبع كل سكان سيدي عيسى في ذلك اليوم، وجعلهم يطالبون بالقصاص العادل في حق الجاني أو الجناة، والإسراع في محاكمته حتى تهدأ النفوس ويبرد قلب الأم المكلومة التي رزئت في فلذة كبدها دون جرم ارتكبه. جريمة قتل مع سبق الإصرار.. تفاصيل هذه القضية حسب قرار الإحالة الذي جاء فيه أن مصالح الضبطية القضائية كانت تلقت مكالمة هاتفية من الحماية المدنية مفادها العثور على جثة بمكان يسمى الشهبة، تبين أنها للطفل أسامة الذي كان محل بحث منذ يومين. ومن خلال المعاينة الأولية فقد تم العثور على الجثة وهي ملقاة على ظهرها وأثار التنكيل بادية عليها، فالجمجمة عارية ومكسرة من جهتها الخلفية، والعينان منزوعتان، والأنف مهشم، والرقبة عارية من اللحم والعمود الفقري تراه العين المجردة، كما تم العثور على حجرة كبيرة الحجم وعليها آثار دماء يعتقد أن الجاني استعملها لتشويه الجثة وإخفاء ملامحها.. رحلة بحث دامت ساعات ولفكّ لغز هذه الجريمة استعان محققو الشرطة القضائية بكلب بوليسي ظل يتتبع رائحة الجثة من مكان العثور عليها إلى غاية زريبة تعود ملكيتها لأحد الموّالين، وبإلقاء القبض على الجاني ومواجهته بصديق الضحية الذي كان رفقته وتمكّن من الهرب يومها لم يجد بدا من الاعتراف بجريمته، مصرحا أنه قام بضرب الضحية بالعصا ولما سقط أرضا حرّض الكلاب على نهش لحمه وهو حي، ثم قام بتقييد يديه وجرّه إلى داخل الزريبة، ليعود في منتصف الليل يجرّ الجثة من جديد نحو مكان يبعد عن الأول بحوالي مائتي متر، وهناك قام بتهشيم جمجمة الضحية، محاولا على حد تصريحه إخفاء ملامح الضحية وإبعاد الشبهة عنه برميها بعيدا عن مكان الجريمة. الجاني: الضحية غير مذنب كان القاتل، وهو يعترف ببرودة دم وأعصاب عن جريمته، يستفزّ مشاعر حتى المحققين الذين كانوا بصدد استجوابه، عندما سألوه عن السبب الذي أدى به إلى ارتكاب مثل هذا الجرم الشنيع، وكان في مقدروه أن يعفو عن الطفل ويتركه لحال سبيله ما دام هذا الأخير لم يسبب له أذى، فأجابهم بنفس تلك البرودة من الدم والأعصاب أن ذنب الضحية الوحيد أنه مرّ على المكان، وقدره أنه كان بالجوار في تلك اللحظة، ولولا أن أجلا آخر كان في صف صديق الضحية لكان اليوم يحاسب على جريمتين وليس واحدة فقط، وهو الاعتراف الذي أدى إلى الإسراع في تحويل الجاني إلى محكمة الجنايات لمتابعته بتهمة جناية القتل العمدي مع استعمال التعذيب وارتكاب أعمال وحشية وجنحة تدنيس وتشويه جثة التي راح ضحيتها الطفل ”أسامة” 12 سنة. ممثل الحق العام: أبشع جريمة في الولاية وحكم الإعدام ”قليل” يوم الجلسة التي شهدت توافدا كبيرا لسكان مدينة سيدي عيسى الذين غصّت بهم قاعة محكمة الجنايات بمجلس قضاء المسيلة، حيث جاءوا ليشهدوا محاكمة المتهم. واعتبر ممثل الحق العام، في مستهل مرافعته: ”إننا اليوم بصدد الحكم في قضية الجريمة المرتكبة فيها تعدّ من أبشع الجرائم التي مرت علينا عبر تاريخ الدورات الجنائية بالولاية”. وأردف بالقول إنه بحث طويلا عن أي مبرر ولو بسيط يمكن أن يخوّل للمتهم قتل روح بريئة والتنكيل بجثة لا حول لها ولا قوة، ”إلا أن لاإنسانية هذا الرجل الذي تجرّد من عاطفته التي وضعها اللّه فيه هي من كانت حاضرة يوم ارتكاب الجريمة، ولابد اليوم أن لا يفلت من عقوبة الإعدام”. لكن كان للمحكمة رأي آخر التي أصدرت حكما بإدانة المتهم بالأفعال المنسوبة إليه ومعاقبته بالسجن المؤبد. وكان ممثل الحق العام، بعد إصدار الحكم، أسرّ لأحد الصحفيين الحاضرين أنه ”لو كان هناك شيء في قانون العقوبات أكثر من الإعدام لكنت سلّطته على هذا المجرم”، ومع ذلك قد لا يشفى غليل والدته الثكلى التي مازالت إلى اليوم تبكي فلذة كبدها حزنا على فراق ابنها أسامة إلى الأبد، فيما يقضي الجاني سنوات عمره وراء القضبان.