صحيح أنه ليس من العدل اتهام الأفافاس باللعب مع النظام لأغراض ظرفية، ولكن توقيت مبادرة الأفافاس ليس في محله. فهل هو خطأ سياسي إستراتيجي ؟ أم أن هناك خلفيات لا يعرفها المتتبع للشأن السياسي في البلاد ؟ هل النظام يريد استعمال الأفافاس ؟ أم أن هذا الأخير يريد اغتنام فرصة الصراع القائم بين عصب النظام من أجل خلق توازن جديد لترجيح كفة السياسي على المخابراتي، حتى وإن كان السياسي يقصد به حزب جبهة التحرير الوطني الذي يتزعمه عمار سعداني ؟ ما نعرفه على الأقل أن هذا الأخير كثف من محاولات التقرب من زعيم الأفافاس منذ أكثر من سنة، وكانت آخرها الرسالة التي بعث بها إلى آيت أحمد والتي لم يتلق بشأنها أي جواب علني إلى غاية اليوم. سعداني لم ييأس وكرر المحاولة وكانت هذه المرة مغازلة مباشرة، فاستغل خرجته ضد الجنرال توفيق لكي يخرج من جعبته ورقة جديدة وهي العبارة التي أطلقها بالقول “نريد في الجزائر دولة مدنية”، وهي مغازلة مباشرة للحسين آيت أحمد الذي وضع سياسته، منذ نصف قرن، على ركيزة أساسية هي الدعوة إلى بناء دولة مدنية وحل البوليس السياسي. أغلب الظن أن النظام وجد نفسه في وضع غير مريح : رئيس الجمهورية مريض لا يظهر أمام الشعب، أحزاب الموالاة بدون مصداقية لا في الداخل ولا في الخارج، زادتها الصراعات الداخلية ضعفا، نزاعات خفية بين العصب أصحاب المنافع المالية، ولعل أكبر مشكل يواجهه النظام اليوم هو نجاح المعارضة بمختلف توجهاتها الإيديولوجية في التكتل في إطار موحد، الأمر الذي لم يكن النظام يحسب له أي حساب. هذا التكتل أرعب نظام الرئيس لأنه يدرك بأن الخارج يمكن أن يتفطن لحقيقة أن المعارضة عندما تتحد يمكن أن تهز أركان أي نظام لا يتمتع بقوة الشرعية الشعبية. كل هذه المعطيات يكون النظام قد حسبها جيدا، ما جعله يركز على حزب يتمتع برصيد شعبي لا غبار عليه في الداخل كما في الخارج وهو الأفافاس. ويمكن الاستشهاد هنا بتحليل أستاذي سعد بوعقبة الذي يرى بأنه نظرا لنهاية صلاحية الأفالان والأرندي فإن النظام يسعى اليوم، من أجل البقاء، إلى استبدال الحزبين بالأفافاس، معبرا عن أمنيته في أن لا يوافق حزب الحسين آيت أحمد على لعب هذا الدور، الذي قد يفقد بموجبه مستقبلا مصداقيته وشعبيته. يبقى على النظام أن يجد الصيغة التي يمكن من خلالها إقناع هذا الحزب ذي الرصيد السياسي الكبير بأن يتنازل ويستعمل من قبل نظام منتهي الصلاحية، في مهمة جمع كل المعارضة من أجل الخروج بدستور يتمتع بالإجماع قد يبقي النظام على قيد الحياة ولكن في غرفة الإنعاش. ولتحقيق هذا الهدف، كان يجب نفض الغبار عن مبادرة قديمة وضع خطوطها العريضة المرحوم عبد الحميد مهري قبل أربع سنوات، وهي المبادرة التي زكاها الحسين آيت أحمد رسميا من خلال مكالمة هاتفية مع مهري. المبادرة كانت تحمل الكثير من أفكار الأفافاس خاصة في مجال تشخيص المرض الذي يعانيه النظام بقوله إن نظام الحكم الذي أقيم بعد الاستقلال انطلق من تحليل خاطئ لما تقتضيه مرحلة بناء الدولة الوطنية (...) فقد اختار بعض قادة الثورة في غمرة الأزمة التي عرفتها البلاد سنة 1962 إستراتيجية انتقائية لمواجهة مرحلة البناء بدل الإستراتيجية الجامعة التي اعتمدها بيان أول نوفمبر 1954 (...) مضيفا أنه نتيجة لذلك أصبح الإقصاء هو السائد في التعامل السياسي. ومن أهم نقاط المبادرة، يمكن ذكر ضرورة تقييم نقدي شامل لنظام الحكم وممارسته في مراحله المختلفة منذ الاستقلال، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بإخراج البلاد من دوامة العنف والاتفاق على أرضية وطنية تبلور التوجهات الكبرى لآفاق التنمية الوطنية الشاملة. اليوم تطرح قيادة الأفافاس مبادرة جديدة، ولكن بنفس روح مبادرة عبد الحميد مهري للخروج من الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ مدة، وأول حزب يتبنى المبادرة هو حزب جبهة التحرير الوطني الذي يمثل النظام الذي عارضه حزب الدا الحسين منذ نصف قرن، يمثله بكل غطرسته وتناقضاته. والسؤال المطروح كيف كان الأفافاس ينتظر أن تستقبل مبادرته في هذا الوقت الذي يكرس النظام كل قوته أو ما تبقى له من قوة لخنق الحريات السياسية، النقابية والإعلامية. صحيح أنه ليس من العدل اتهام الأفافاس باللعب مع النظام لأغراض ظرفية، ولكن توقيت مبادرة الأفافاس غير مواتٍ. فهل هو خطأ سياسي إستراتيجي ؟ أم أن هناك خلفيات لا يعرفها المتتبع للشأن السياسي في البلاد ؟ الاعتقاد السائد أن النظام استدرج حزب الأفافاس إلى مستنقع يصعب الخروج منه سالما، ولكن تتبعنا لكل مسار أقدم حزب معارض في البلاد يدفعنا للقول إن الأفافاس لن ينجح في إقناع النظام بأن يجلس مع المعارضة ويناقش الأزمة السياسية بكل تفاصيلها، لأن الهدف أساسا ليس نفسه بين ما يريده النظام وما تريده المعارضة، الأول يبحث عن إجماع من أجل الاستمرار في الحكم، بينما الطرف الثاني يريد التغيير بطرق سلمية. والدليل أن زعيم الأفالان، عمار سعداني، وضع شرطا منذ البداية وهو عدم التطرق لمنصب رئيس الجمهورية الذي اعتبره خطا أحمر. فأي تغيير هذا الذي يبدأ بالخطوط الحمراء اللهم إلا إذا كان مفهوم التغيير يقصد به تغيير الشعب واستمرار النظام بواجهة جديدة.