يقول مالك بن نبي رحمه الله: “{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ...}. اقرأ... هذه هي الكلمة الأولى الّتي تفتّح إليها أوّل ضمير إسلامي، ضمير محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويتفتّح لها بعده كلّ ضمير مسلم. إنّ الحروف هي حقًّا أداة لنقل الرّوح، لكلّ رسالةٍ، ولكلّ بلاغ، فهي الحامل والرّمز لكلّ معلومةٍ من المعلومات، فأوّل ما نزل به القرآن يشير إلى أهمّيتها، ويخصّص موضوعها بالذِّكر، ويرسم في الضّمير الإسلامي قيمتها منذ اللّحظة الأولى في كلمة: {اقْرَأْ}”. نعم.. إنّ وراء كون الآيات الأوّل النّازلة من القرآن الكريم تتعلّق بالقراءة والعلم والقلم وخلق الإنسان لحِكمًا بالغة ومقاصد عظيمة؛ منها ما ذكره الأستاذ عبد الكريم الخطيب: “السرّ في أن كان أوّل ما تلقّاه النّبيّ من كلمات ربّه هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، أنّ نعمة التّعليم بالقلم، وهى الكتابة، معادلة لنعمة الخلق، والحياة.. فكما أنّ الله سبحانه بالخلق أوجد الإنسان من عدم، كذلك بالعلم علّم الإنسان الكتابة، فسوّى خلقه، وأتمّ عليه نعمته!، وفي هذا إشارة إلى أنّ خلق الإنسان لن يكمل ويقوم على الصّورة السويّة، إلاّ إذا تجمّل بالعلم، الّذي وسيلته الأولى، التّعلُّم، الّذي مفتاحه الكتابة والقراءة!!”. ولا يخفى أنّ ذكر اسم الله الأكرم بالذّات في هذه الآيات له مغزى جليل نبّه العلماء إلى بعضه، ذلك أنّ {الْأَكْرَمُ} هو الّذي له الكمال في زيادة كرمه على كلّ كرم، ينعم على عباده النّعم الّتي لا تحصى، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنّه ليس وراء التّكرّم بإفادة الفوائد العلمية تكرّم، حيث قال: {... الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، فدلّ على كمال كرمه بأنّه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. وقد نوّه سبحانه وتعالى بالقلم، ورفع قدره، ونبّه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة الّتي لا يحيط بها إلاّ هو، وما دوّنت العلوم ولا قيّدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلاّ بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدّين والدّنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلاّ أمر القلم والخط، لكفى به. فالكتاب هو أداة تسجيل العلوم والمعارف وحفظها، وهو ينقل عن الإنسان نتاج تفكيره، وثمرات عقله، ويقيم له بهذا ذِكْرًا خالدًا في الحياة، بقدر ما يحمل الكتاب عنه من خير، وما ينشر من نفع، فكان لهذا جديرًا بأن يُصان من أن ينشر باطلاً، أو يسجّل لغوًا.. وإجمالاً أقول ولا تثريب عليّ: إنّ أساس قيام هذه الأمّة هو كلمة: {اقْرَأْ}... ولا يمكن أن تقوم لها قائمة من غير قراءة... الأمّة كتابها العظيم... ولا يمكن أن يعود لها مجدها بعيدًا عن الكتاب... * إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة