جاءت رواية "ذاكرة هجرتها الألوان" للكاتبة فضيلة ملهاق، الصادرة حديثا عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، على شكل عودة للعشرية السوداء (التسعينات)، لكنها توغلت كثيرا في التاريخ واستعادت أحداثا تاريخية سابقة. تقول فضيلة ملهاق إجابة عن سؤال: هل الروائي محكوم عليه أن يكون بمثابة مؤرخ الذاكرة المجروحة؟ "عندما يكون إحساسك أعْمقُ من أفكارك يُسبّلك القلم ويجعلك تركض بأثقال قلبك بلِهاثٍ من موْقف لآخر، ومن جُرْحٍ لآخر، دون أن تعتدّ بالتَّعب والخطر، مثلما تركضُ فِرَقُ الإسعافِ أثناء الغارات.. لا فرْق إن كُنْتَ تُسْعِفُ المنكوب على لوحات الذاكرة بالمِداد أو برَماد قلْبِكْ". وتضيف الكاتبة التي نشرت إلى حد الآن أكثر من عشرة أعمال أدبية بين القصة القصيرة والرواية: "ومع ذلك، فالروائي ليس بالضرورة كومة حرير عالقة بأشواك ذاكرة، أو محرك آلة زمنية للتعذيب. فاعتصارات الذاكرة المثلمة بالجراح هي غالبا سقاية في زمن القحط لبذرة الإحساس بالآخر. هي توالد وإنتاش للأبعاد الحضارية للفكر الإنساني. لذلك لم يكن بالسهل أن يستدرجني القلم إلى معايشة كل ما مرّ به الإنسان في الجزائر، أيا كان وضعه خلال فترة التسعينات، دون أن يستوقفني تساؤلان. أولهما أربك اعتدادي بالإيحاءات المعتادة للألوان.. فهل يكفي اصطلاح العشرية السوداء لزمن أصبحت فيه عتمة القبر من ألوان الحياة؟ وثانيهما قوّى اعتدادي بضرورة تكامل لوحات الذاكرة لأجل التفاعل المنطقي مع تناسخات الألوان الثابتة والمتغيرة في الوجود".
خاض قلمي رحلته إلى الوراء ولم يكن مجديا أن أكبح لجوجه وترى فضيلة ملهاق أن "الوجه الأدبي للظاهرة التاريخية حين تنحته الدواخل بريشة ناعمة ونفس طري يغلب رغبة القلم في توسيع دائرة الذاكرة للفترات السّابقة. لذلك فقد خاض قلمي رحلته إلى الوراء ولم يكن مجديا أن أكبح لجوجه في بعض اللوحات بما تمتم به "رضوان" رئيس البلدية السابق، وهو ما بين مطرقة الظروف وسندان قناعاته (التاريخ شحاذ مسكين يقتات مما يدسّه المحسنون في جيوبه)". وعن سؤال حول الارتباط بالتاريخ، هل هو الذي أدى إلى توليد شخصيات ثانوية (الضّاوية، وردية، رضوان، صونيا، ربيعة، العيفة، العُقبي، عثمان، السّاسي.. الخ) تحوم حول الشخصية المركزية (رحيم) مع تقدم السّرد؟ قالت ملهاق: "هو ليس ارتباط بالتاريخ بمعنى القيد ولكن بمعنى التثبّت والجزم. لأن عنصر الإلزام ليس واردا، وكان يمكن التحلل من بعض أُطُره الزّمكانية بأسلوب أو بآخر. كما يصعب الجزم بأن هذه الشخصيات ثانوية. فوجودها المتكامل يشكل ذاكرة "رحيم" التي تحولت فجأة إلى فصوص تصنع عقودا وتنفلت من أخرى، وعقود تلتف حول عقود وتنضفر بأخرى. ف"الضّاوية" مثلا، هي فص حركي في أكثر من مرحلة تاريخية. كما أن "وردية"، ولو لم تظهر في حياته منذ البداية، هي بؤرة ارتجاجات عديدة، كالشعور بالانتماء والرضا.. والاغتراب.. وكذلك "ربيعة" تثير مسألة التأخير والتقديم في تفاعله مع عطايا القدر ولوازم اختياراته. و"العيفة" وضعه في مواجهة هواجسه الفطرية المتفرقة ما بين رواسب المعلوم وهواجس الاقتراب من المجهول المحتوم. كما أن ل"عثمان" الإعلامي حركية فكرية خاصة طيلة أحداث الرواية.. وكذلك "العقبي" هو صنيعة واقعين مختلفين وصانع مواقف متقاربة، الثورة على الاستعمار والثورة على الخوف". البحث عن الحقيقة مبتغى أي إنسان يقترب أسلوب فضيلة ملهاق الروائي في بعض مناحيه من الأسلوب التوثيقي، بالأخص حينما يتعلق الأمر ببعض أحداث الثورة (الحركة المصالية)، ونشاط الحركة المسلحة خلال التسعينات، وعليه تجيب عن سؤال هل هي من أنصار الكتابة التوثيقية؟ كما يلي: "الرواية في عمومها هي توثيق انفعالات ولوحات بذاتها. لكن الكتابة التوثيقية بمفهومها الضيق المبني على السندات المادية الملموسة تكون محبّذة لتدعيم اليقين. وبشكل يخضع تقديره للروائي الذي يعرض الحقيقة على القارئ. لذلك فعندما تسلل بي القلم لزمن الحركة السياسية الأولى، واختلافات جماعة النخبة بجناحيها المفرنس والمعرب والحركة المصالية، ارتأيت ضرورة التوثيق للفت انتباه الباحث في خضم متعة الأدب". وأضافت: "كما عمدت لتدعيم وعي القارئ بالمراجع القانونية والتاريخية بصدد سرد بعض الأحداث التي سبقت أو لازمت فترة التسعينات لأجل ألا تتميّع حقيقة الواقع المكتسح بصلابته بين أنامل الأدب الناعمة. فالبحث عن الحقيقة هو مبتغى أي إنسان. ومن الأنسب لها أحيانا أن تعرض كلوحة ممضاة. خاصة أن "التاريخ غالبا ما تصنعه العفوية ويحفظه الانتقاء" كما ذكرت مدرسة التاريخ لزميلها "مصطفى" مدرس الرياضيات، الذي كان يعتمد المعايير الهندسية كأسس في بناءات أحلامه، فانكسرت أحلامه وبقيت الإحداثيات الهندسية تسوّر تطلعاته بقضبان من حديد". وعن مسألة التماهي مع الشعر في روايتها، تعتقد فضيلة ملهاق أن الروائي هو شاعر ينثر قصائد دواخله، فيستجمعها باقات ثم ينثرها وريدات ووريقات ليستمتع باستنشاقها جزءا جزءا. وقالت: "الحس الشعري، أيا كان شكله، هو نحت رقيق لإفرازات العاطفة التي تظل الحلقة المفقودة بين الإنسان الذي كرّمه الله بالعقل وتطوّر الإحساس، وباقي المخلوقات التي تعيش منذ نشأتها على نظام غرائزي لا تحيد عنه سوى بمقتضيات التحوّر أو الطّفرة. ولدواخلي في ذلك مدّ وجزر أفضى بي لاستيطان الكثير من الجزر السابحة بغوار، التي تراصّت بعض لوحاتها في مجموعات شعرية تم نشرها تحت عناوين مختلفة (الفيفا في الجزيرة، قهوة باردة، مارد من عصر الحجر، رائحة البرميل، سبورة أفلاطون..)".