يتكئ الحالم كل يوم على حافة آخر المساء، يعدُّ دفتر العمر الذي أوشكت ورقة منه على النفاد.. يتأمل طيف فتاة عبرت للتو صمته الموحش، كانت هي آخر مهرة وكان هو آخر الفرسان.. وما بينهما من هزائم وانتصارات. في الحب والحرب يكذب الإنسان، لم نعد نمتلك سواهما: الحب والحرب وكلاهما ليس القرار بأيدينا، في الأول يُصدر القلب قراراته الصارمة، يزجنا في شغاف الآخر شئنا أم أبينا، يملي علينا لواعجه وننصاع مثل جنود ذاهبين إلى معركة في حافلة لا تعلم إن كانت في الشبر القادم من الأرض ألغام. لذلك في الحرب أيضاً ليس القرار بأيدينا، ولا بأيدي الوطن. كل هذه الحروب ليست لأجل الوطن، آخر الحروب التي كانت لأجله تلك التي قادها ثوار بسطاء في الجبال والغابات. الحروب الوطنية هي التي يستقر تاريخها في المتاحف وتشاهدها الأجيال باعتزاز، أما اليوم، فهذه الحروب لا تصلح للمتاحف، ما الذي سوف يشرحه الدليل السياحي للزائرين حينها، عن أي تاريخ سيتحدث حول هذه الرأس المقطوعة، وهذا الحزام الناسف..ومَن هو العدو؟ اليوم أنت لا تعرف في الحب حبيبك، ولا في الحرب عدوك، تختلط عليك الصور كأنك بوصلة قديمة في زمن الخرائط التي تعمل على الأقمار الاصطناعية. ولكنك مع ذلك وفيٌّ للطرقات التي كنت تسيرها بفطرتك البدائية، تهتدي بنجوم عينيها، وتضبط أشرعتك على مسار عواصفها حين تهبُّ من كل الجهات. في الحب والحرب، لا مكان للحكماء والعقلاء. وثمة شخص واحد الآن لا يعنيه كل هذا، هو ذاك الذي رأيته ذات وهمٍ متكئاً على حافة آخر المساء. كان يتصفح صحيفة وبدا أنه لا يقرؤها، كان فقط يحدق في البياض الذي على هامش الصفحات، البياض الذي لا تشوش عليه صور الركام. أغلق الصحيفة، وركل قطةً توسلت ساقه، ثم نهض يتبعه نادل المقهى، نسي أن يدفع الحساب..قال للنادل: "سجلها على دفتر العمر إن ظل فيه ما يكفي من صفحات".