إنّ استغلال النّفوذ والمناصب لتحصيل أغراض مادية ممنوعة أو شهوات محرّمة لأمر خطير إذا ظهر في مجتمع من المجتمعات، وخاصة فيما إذا استغلّ صاحب المنصب ضعف المرأة وقلّة حيلتها كي يعتدي على شرفها أو كرامتها، إنّ ذلك لعمري انحطاط في القيم ودناءة في السّلوك والأخلاق، يتطلّب تدخّلًا عاجلًا لإصلاح الوضع قبل استفحاله، وحتّى لا يظنّ أيّ مسؤول مهما علا منصبه أنّه في منأى من العقاب والمتابعة. إنّ الوظيفة العامة في الإسلام هي مصلحة من مصالح المسلمين، ومعلوم أنّه لا يجوز إلحاق الضّرر بالمسلمين بأيّ حال من الأحوال؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا ضرر ولا ضرار”. والموظف العام ركيزة أساسية في أيّ دولة حديثة، فالدولة كشخص معنوي لا يمكن لها أن تستقيم بلا عناصر بشرية تُسيّر بها أعمالها، والموظف العام وسيلة تعبّر بها الدولة عن إرادتها، ولسان ينطق برغبتها، ويد قوية تقدم بها خدمات المرافق العامة وتحقّق بها سيادتها وسلطانها. وإنّ إساءة استعمال السلطة ليس أمرًا حديثًا بل هو موجود في كلّ عصر من العصور، وفي كلّ مجتمع من المجتمعات، إذ إن هذه الجريمة مرتبطة مع وجود السلطة نفسها، وإذا كانت السلطة لها حدود ثابتة فإنّ تجاوز هذه الحدود يعني إساءة استعمالها، وبالتّالي انحرافها عن الهدف، ولهذا أوجبت التشريعات والأنظمة السّماوية والوضعية ضرورة الالتزام بالحدود الواجبة والمقرّرة لكلّ سلطة. وفي الشّريعة الإسلامية نجد أنّ الإسلام جرَّم هذا الفعل قبل أيّ نظام آخر، حيث منع الظّلم والإضرار بالنّاس، ومنع الاعتداء على الحقوق، ومنع أكل أموال النّاس بالباطل، وحرَّم الكسب الحرام بأيّ صورة تمّ تحقيقه، ونهى عن الغشّ والخداع، وأقرّ مبدأ تفضيل المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وتعامل مع الوظيفة من منطلق كونها أمانة وعدَّ استغلالها أو إساءة استعمالها خيانة لهذه الأمانة، كما عدّ القيام بالواجبات المنوطة بالشّخص من قبيل البرّ والتّقوى الّذي يأمُر به المولى سبحانه وتعالى بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وعليه فإنّ أيّ تفريط في العمل وتضييع للواجبات وإساءة في استعمال المهام أو استغلالها لمنافع شخصية فهو من قبيل التّعاون على الإثم والعُدوان. كما أنّ استغلال الوظيفة لتحصيل أغراض مشينة يعدّ من الفساد الّذي نهى عنه الله سبحانه، ولقد أمر الله تبارك وتعالى بالإصلاح ونهى عن الفساد، فقال عزّ من قائل: {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ}، وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، وقال سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}. وقضى تبارك وتعالى بعدم صلاح أعمال المفسدين، وبَيَّن بغضه للفساد وأهله، فقال سبحانه: {وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ}، وقال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ}. وما من عمل يتبوؤه المرء إلّا وتنشأ عنه له حقوق، ويفرض عليه واجبات، واستغلال المرء لموقعه من وظيفته تجاوز للحقوق الّتي يخولها عمله له، وأخذ الإنسان ما لا يستحقّه وتقصيره في الواجبات الّتي رتبتها وظيفته عليه، ممّا حرمته الشّريعة الإسلامية، فاستغلال المرء نفوذًا ليس له هو من قبيل التّدليس والكذب والتّزوير، وكلّ ذلك محرّم، فإذا كان للحصول على المال أو المنفعة فإنّ ما يحصل عليه من ذلك محرّم، لأنّه رشوة وهي محرّمة، وتقصيره في واجبات العمل تقصير فيما أوجبه الشّارع عليه، فيكون آثماً بذلك، ولا يحلّ له أخذ الأجر لقاء ما قصّر فيه، لأنّه لم يؤده على الوجه المشروع، ونصوص الشّرع تشهد بحرمة هذا الاستغلال، من ذلك ما روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعمل رجلًا لجمع الصّدقة فلمّا قدّم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فخطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أيهدى إليه أم لا، والّذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عفرتي إبطيه ثمّ قال: اللّهمّ هل بلّغت مرّتين (الرّغاء والخوار وايعار: صوت هذه الدّواب). وهذا الوعيد دليل على حرمة استغلال الموظف وظيفته في جني المنافع الخاصة مادية كانت أو معنوية، وتشهد آثار السّلف بعدم استغلالهم لمواقعهم، من ذلك: أنّ ابنا عمر خرجَا في جيش إلى العراق، فلمّا رجعَا مرَّا على أبي موسى الأشعري أمير البصرة، فأسلفهما مالًا مستحّقًا لبيت المال ليسلّماه إلى أبيهما، ثمّ كتب إليه أن يأخذه منهما، فلمّا قدّمَا باعَا وربحا فيه ودفعَا رأس المال إلى عمر، فقال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟، قالَا: لا، فقال: ابنَا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديَا المال وأديَا ربحه، فأشار عليه بعض الحضور أن يجعله مضاربة، فأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ ابنَا عمر نصف الرّبح. وإنّ من أسباب هذا الفساد الإداري ضعف وازع التّقوى، فمن ضعف إيمانه وضعفت تقواه هان عليه اقتحام تلك المصائب والمعاصي والكبائر، ولهذا مَن كان تقيًّا كان أقرب للبُعد عن الوقوع في مثل هذه المحرّمات. لذا فإنّنا نحثّ النّاس وأصحاب المناصب على تقوى الله تبارك وتعالى والخوف منه، وبيان كمال مراقبته تعالى، وأنّه لا يخفى عليه خافية ويستشعروا يوم يقفون أمام الواحد الديّان يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا منصب. *كلية الدراسات الإسلامية/ قطر