هذه الكلمات جزء من آية كريمة من كلام الله تبارك وتعالى وهي قول الحق جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. في هذه الآية الكريمة يبين الحق جل وعلا أمره لعباده المؤمنين بأن يكونوا قوامين بالقسط قائمين بالعدل، وأن يكون عدلهم مع جميع الخلق، الموافقين منهم والمخالفين، وأن لا يحملهم بغضهم للمخالفين بأن لا يعدلوا معهم، لأن بالعدل قامت السماوات والأرض، وهو أقرب الطرق الموصلة للتقوى. قال العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري ... ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة. تفسير الطبري (10/ 95). واستعمال العدل إن كان مأموراً مع المخالفين من أهل الكتاب ومطلوب التزامه في جميع الأحوال؛ فهو ولا شك من باب أولى أن يكون مطلوبا استعماله مع المؤمنين وإن حصل خلاف بينهم. وقد وجدت من أكثر العلماء تقريراً لهذا الأمر انطلاقا من الآية الكريمة السابقة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد أعاد القول وكرره ونوعه في أغلب كتبه ورسائله. فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى: وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغضٌ مأمور به، فإن كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم. منهاج السنة النبوية (5/ 127) وقال رحمه الله أيضاً: وَقَالَ تَعَالَى: {لتبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} [سُورَة آل عمرَان 186] فَأمر سُبْحَانَهُ بِالصبرِ على أَذَى الْمُشْركين وَأهل الْكتاب مَعَ التَّقْوَى وَذَلِكَ تَنْبِيه على الصَّبْر على أَذَى الْمُؤمنِينَ بَعضهم لبَعض متأولين كَانُوا أَو غير متأولين. وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا يجرمنكم شنئان قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} [سُورَة الْمَائِدَة 8] فَنهى أَن يحمل الْمُؤمنِينَ بغضهم للْكفَّار على أَلا يعدلُوا عَلَيْهِم فَكيف إِذا كَانَ البغض لفَاسِق أَو مُبْتَدع متأول من أهل الْإِيمَان فَهُوَ أولى أَن يجب عَلَيْهِ أَلا يحملهُ ذَلِك على أَلا يعدل على مُؤمن وَإِن كَانَ ظَالِما لَهُ. فَهَذَا مَوضِع عَظِيم الْمَنْفَعَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا فَإِن الشَّيْطَان مُوكل ببني آدم وَهُوَ يعرض للْجَمِيع ولا يسلم أحد من مثل هَذِه الْأُمُور دع ماسواها من نوع تَقْصِير فِي مَأْمُور أَو فعل مَحْظُور بِاجْتِهَاد أَو غير اجْتِهَاد وَإِن كَانَ هُوَ الْحق. ويقول رحمه الله أيضاً: وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال، قال تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى. منهاج السنة النبوية (5/ 79). وقال رحمه الله تعالى أيضاً: وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم وعدل، ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء. منهاج السنة (2/71). وقال أيضاً : بَلْ الْعَدْلُ وَاجِبٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالظُّلْمُ لَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنْهُ بِحَالِ، حَتَّى إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْدِلُوا عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. وَالْمُؤْمِنُونَ كَانُوا يُعَادُونَ الْكَفَّارَ بِأَمْرِ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا: لَا يَحْمِلُكُمْ بُغْضُكُمْ لِلْكُفَّارِ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ بَلْ اعْدِلُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. مجموع الفتاوى (30/ 339) وقال أيضاً: وَلَيْسَ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَصْدَقُ وَلَا أَعْبَدُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَمَعَ هَذَا فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمُ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ وَلَا يَظْلِمُونَهُمْ، فَإِنَّ الظُّلْمَ حَرَامٌ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ أَهْلُ السُّنَّةِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، بَلْ هُمْ لِلرَّافِضَةِ خَيْرٌ وَأَعْدَلُ مِنْ بَعْضِ الرَّافِضَةِ لِبَعْضٍ. منهاج السنة النبوية (5/ 157)، والحاصل أن تقرير مبدأ العدل مع الموافق والمخالف أمر تشهد له الأدلة الصحيحة، والفطر السليمة، ومنطوق الآية السالفة أصرح دليل في ذلك. وأما ظلم العباد بحجة رد الباطل فهو من أشبه الصور بفعل من احتال على المحرم بفعل المباح، وهو من الحيل المحرمة. فمتى كانت دماء المسلمين أو أعراضهم أو أموالهم وهم لا يزالون مسلمين حِلاً ونهباً بحجة أنهم مخالفين، وأي حجة تكون لمرتكب ذلك؛ والأدلة الشرعية الصحيحة الصريحة تثبت بحجة قاطعة حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهمة